شعب الشعوب السوريّ – ثائر علي ديب
سناك سوري – مقالات وآراء
يكاد لا ينتهي عدد المنخرطين في المعمعة السورية، أفراداً وجماعاتٍ ودولاً، ممن عبّروا بأشكال مختلفة عن رؤيةٍ إلى بنيةِ سوريا وكارثتها هي رؤيةٌ طائفية تجد أنَّ انقسام المجتمع السوري إلى طوائف واستئثار إحداها بمزايا السلطة والثروة هو السبب الجوهري لما يجري في هذا البلد.
سبق لمُختَطَف داعش الأب باولو، الأيطالي الذي أقام في سوريا، أن دعا بوضوح إلى “الديمقراطية التوافقية” (كما هو الحال في لبنان والعراق وسواهما) وإلى تطبيق الشريعة الإسلامية انطلاقاً من “احترام الخصائص الخاصة بكلّ شعب واحترام ثقافته ومعتقداته”.
وكان “الاتحاد الديمقراطي الكردي” –رغم ماركسيته وقوميته- واحداً من أكثر الجهات استخداماً لمفردة “المكوّنات” في الإشارة إلى بنية المجتمع السوري. ووصل الأمر ببعض أنصاره حدّ القول: “لا حلّ في سورية الا بكيان للسنّة وآخر للكرد وثالث للعلويين ورابع للمسيحيين وخامس للدروز… ويمكن من ثم أن تتفدرل هذه الكيانات”.
وعمد سوريون -من اليساريين السابقين غالباً- إلى عقد مؤتمرات ذات صبغة طائفية أقلوية (علوية أو درزية) ليشجعوا طوائفهم على الانضمام إلى الثورة، وربما ليتشفّعوا لهذه الطوائف عندها، وفي جميع الأحوال ليستغلّوا هذه المؤتمرات فرصةً للجوء والتموّل.
وثمّة كثير من الأقوال لسوريين –بينهم مدّعو ماركسيةٍ وليبرالية- تنطوي على المنطق نفسه، سواء بلغت أم لم تبلغ الذروة السابقة المشار إليها: الدعوة الصريحة إلى ديمقراطية المكوّنات العرقية والطائفية. يقول أحدهم: “ينفتح العلويون السوريون على الاتجاهات الفكرية الحديثة ويتحمسون لها لأنّها تنقذهم من أقلويتهم”. ولا يلبث أن يتساءل: “أليس العلويون خارج الثورة؟ ما نسبتهم بين المؤيدين للحراك؟!”. ويتبرّم آخر: “متى نخلص من خوف السنّة من العلمانية وخوف العلويين من الديموقراطية؟” ويرى ثالث أنّ الجماعات الاعتقادية السورية “جماعات تأسيسية للكيان الوطني”. ويطالب رابع –إزاء التقدم العسكري الذي كانت تحققه النصرة وداعش في 2015- بـ”ضمانات للأقليات”. فيرد عليه خامس: “الضمانات تكون طرفاً في صفقة، طرفها الآخر تخلي العلويين عن النظام واختيار ممثلين آخرين للطائفة. طالما لم يحدث هذا فهم يطلبون الحماية، لا الضمانات. والرد الإيجابي على طلب الحماية هو “العفو عند المقدرة””. بل يصل الأمر بهذا الخامس –اليساري السابق الذي يعتبر انتصارات النصرة انتصارات له وللسنّة- حدّ القول: “لا بد من افتراض سيكولوجيا جمعية لعلويي سوريا”. ومن المعروف، بالطبع، أنَّ برهان غليون، حين كان رئيساً لـ”المجلس الوطني”، اقترح أن تُمنع على العلويين مناصب الأمن والجيش بعد انتصار الثورة المباركة.
لكنَّ الأخطر في الأمر، نظراً إلى مدى النفوذ والتأثير في الوضع السوري اليوم، هو ما قدّمته إيران من مبادرةً لإعادة كتابة الدستور السوري “بما يتوافق وطمأنة المجموعات الإثنية والطائفية في سوريا”، وما عبّر عنه عدد من المسؤولين الروس من أنَّ مشكلة سوريا هي مشكلة مكوّناتها العرقية والطائفية، وصولاً إلى اقتراح الرئيس بوتين “مؤتمراً لشعوب سوريا لمصالحة الحكومة والمعارضة”.
تفصح المواقف السابقة عن رؤى شتّى يجمعها المنطق الطائفي الواحد ذاته: فمنها من يرى أنَّ ديمقراطية المواطنة ليست من خصائص الشعب السوري الخاصة ولا من ثقافته ومعتقداته (وربما ليست من جيناته)؛ ومنها من يخلط القومية (الكردية) خلطاً شنيعاً مع مذاهب دينية في الوقت الذي لا يتورّع عن التعامل مع العرب كأنَّ لا قضية قومية لهم وليسوا أمّة كالكرد بل مجرد طوائف؛ ومنها من يعتبر الدافع وراء سلوك جميع الأفراد هو انتماؤهم الطائفي، فإذا ما خرج بعضهم على إجماع الطائفة المزعوم، كانوا استثناءً قليل العدد يُثبت القاعدة ولا ينفيها؛ ومنها من يتفوّه بكلام لا يكاد يختلف عن منطق العنصرية النازية؛ ومنها من يُطلق تعميمات عن الطائفية تخفي جهلاً بالفوارق الجوهرية بين التجارب الطائفية باختلاف البلدان؛ ومنها من يرطن في فهم الطوائف والطائفية برطانةٍ مسفسطةٍ بعض الشيء لا تلبث أن تجد في المساواة بين الطوائف بوصفها “الجماعات التأسيسية للكيان الوطني” حلّاً للمشكلة التي تسببت بها الطوائف ذاتها حين تميّزت واحدتها عن الأخريات!
هكذا تبدو “الديمقراطية التوافقية” واحدةً من خواتيم الحدث السوري الرهيب المحتملة بقوة، نظراً إلى طبيعة القوى المتصارعة، وطبيعة تحالفاتها الإقليمية والدولية، وما تحمله من أجندات وأهداف، وما تنطوي عليه من عنف، ونظراً إلى ما يُداني الغياب المطبق للقوى الوطنية والديمقراطية التي شوّهتها أو أوهنتها عقودٌ من القمع الوحشي وهمشّت الحرب وطبيعة المتحاربين ما بقي منها.
“الديمقراطية التوافقية”، في مفهومها النظري وأمثلتها العيانية، هي ديمقراطية تقاسم ممثلي الطوائف وزعمائها مؤسسات السلطة ومواقعها. وأساسها النظريّ أنّ المجتمع، في أصله وجوهره، طوائف وأعراق، ولا بدّ تالياً من أن يُفْهَم ويُدَار ويُصَاغ على هذا الأساس. وطبيعيٌ عندها أن تغدو الجماعات والهويات الجماعية الطائفية والإثنية مرجع الدولة الوطنية وليس العكس. فما يؤسّس الكيان الوطني والدولة الوطنية، بحسب هذا المنطق، هو جماعات مؤسِّسة، مذهبية وطائفية وإثنية، يجب أن تتساوى فيما بينها، وليس علاقة مواطنة تربط الفرد بالدولة.
والفارق بين الحالتين تبيّنه الأسئلة: هل نحن –في الدولة الحديثة- إزاء مواطنين أفراد أم إزاء جماعات (طوائف وأعراق)؟ هل هذه الانتماءات الجماعية كيانات قائمة بذاتها ممّا يرتّب على الدولة حقوقاً تجاهها تتعدّى حقوق المواطنة والفرد؟ هل لهذه الجماعات الحقّ في أن تكون لها سلطة على الفرد والمواطن، وهل تفوق هذه السلطة حقّ هذا المواطن في اختيار انتماءاته؟ بعبارة أخرى: ما العلاقة بين الجماعة والفرد والدولة؟ هكذا، ينفتح المجال واسعاً أمام تناول علمي لمسألة الجماعات، الطائفية والعرقية وسواها، بدل الاكتفاء بأخذ واقع وجودها ذريعةً لتكريسها ومأسستها، باسم التحرر والمساواة.
تقوم الدولة الحديثة البرجوازية غير المتخلفة -ناهيك بالاشتراكية- على أساس المواطنة، أي على أساس تساوي المواطنين الأفراد أمام القانون وفي حرياتهم وحقوقهم السياسية. وهذا وحده ما يوفّر إطاراً سياسياً واحداً للقانون والعدل، أو مرجعاً أساساً لهما، يمكن أن يستوعب في داخله حقوقاً جماعية لجماعات مختلفة. فحين تُربط الحقوق بالمواطنة وبالفرد المواطن، لا بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد، يغدو وجود جماعات لها حقوق مسألة يسيرة، إذ يغدو الانتماء إليها واحداً من حقوق الفرد المواطن ذاتها، ألا وهو حقّه في اختيار هويته الثقافية أو الدينية. وبالمقابل، فإن اتّخاذ حقوق الجماعات مرجعاً وأساساً ليس سوى مشروع لإقامة كيانات منفصلة ومتحاربة لا يجمعها إطارٌ واحدٌ لإدارة العدالة، وليست دعوته إلى تقاسم السلطة والتوافق والتعايش سوى نوع من إدارة حرب مفترضة مخبوءة قد تغدو حرباً أهلية فعلية في أيّ لحظة، شأنها شأن الاستبداد الذي لا يطول عليه الوقت قبل أن يهدم كلّ ما سبق بناؤه.
جريدة الاتحاد