أخر الأخبارالرئيسيةتقارير

سوريا الجديدة … انقلاب التحالفات السياسية والتموضع الدولي

دمشق تمدّ يدها نحو اتفاق مع الكيان .. والشرع ينفي القطيعة الدائمة مع طهران

حمل سقوط نظام بشار الأسد يوم 8 كانون الأول 2024 تغيّراً كليّاً في وجه سوريا وانزياحاً مذهلاً في خارطة تحالفاتها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية، وخلال عامٍ واحد أصبحت “سوريا” نسخة مختلفة كليّاً على الصعيد العالمي عمّا كانت عليه حتى يوم 7 كانون الأول في عهد النظام السابق.

سناك سوري _ محمد العمر

هذا التغير في التموضع السياسي كان طبيعياً ومتوقعاً مع سقوط نظام الأسد، فبينما كان من البديهي أن تكون “تركيا” و”قطر” من أوائل المرحّبين بسقوط النظام ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى سدّة الحكم، فقد كان لافتاً أن دولة مثل “السعودية” سارعت لمباركة الحكم الجديد رغم أنها قبل أشهر كانت ضمن الدول العربية التي استعادت علاقتها من نظام الأسد واستضافته على أرضها في زيارة رسمية، ضمن موجة لإعادة تعويمه في العام الأخير من حكمه.

انتقلت العلاقة السورية الأمريكية من حالة التوتر الدائم مع استثناءات للتهدئة خلال عقود من حكم “البعث”، إلى حالة الانفتاح على علاقة طبيعية بين البلدين، وقد مثّل ذلك ذروة الانزياح السوري عن المواقف السابقة.

العلاقة مع الولايات المتحدة

ستكون “الرياض” البوابة الرسمية لخلق علاقة بين “واشنطن” و”دمشق الجديدة”، حيث استثمر ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” زيارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إلى السعودية، لترتيب لقاء قصير هو الأول من نوعه بين “ترامب” والرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع”.

كانت تلك اللحظة بداية إعلان الإدارة الأمريكية نيتها رفع العقوبات المفروضة على سوريا، من منطلق منح البلاد الخارجة من سنوات الحرب فرصةً لاستعادة عافيتها كما قال “ترامب”، ونظراً لأن العقوبات كانت مفروضة على نظام الأسد بالأصل بسبب انتهاكاته وجرائمه، وبالتالي يجب أن تزول بعد سقوطه كما يقول مسؤولو الحكومة السورية.

الشرع يلتقي ترامب وعقيلته في نيويورك .. واتفاق لإعادة العلاقات مع أوكرانيا

وسرعان ما تطورت العلاقة بين البلدين، مع إعلان “ترامب” إلغاء العديد من حزم العقوبات التي فرضت تباعاً على “سوريا” منذ السبعينيات، وصولاً إلى تعليق “قانون قيصر” الذي يحتاج موافقة الكونغرس الأمريكي لإلغائه كليّاً، وهو أمر لا يمكن لـ”ترامب” تجاوزه، رغم تأكيده مراراً على موقفه الداعم لرفع العقوبات عن سوريا لفتح أفق إعادة إعمارها واستعادة وضعها الطبيعي.

في حين، شهد شهر تشرين الثاني الماضي قراراً أمريكياً بإزالة اسم الرئيس “الشرع” من قوائم الإرهاب الأمريكية، وسبق ذلك رفع اسم “هيئة تحرير الشام” من قوائم المنظمات الإرهابية في “الولايات المتحدة” أيضاً، ما أدى في نهاية المطاف لزيارة وصفت بالتاريخية أجراها “الشرع” إلى “واشنطن” ليكون أول رئيس سوري يدخل البيت الأبيض.

انتقلت العلاقة السورية الأمريكية من حالة التوتر الدائم مع استثناءات للتهدئة خلال عقود من حكم “البعث”، إلى حالة الانفتاح على علاقة طبيعية بين البلدين، وقد مثّل ذلك ذروة الانزياح السوري عن المواقف السابقة.

ترامب ينفذ وعده برفع العقوبات .. ويحدد الأولويات الأمريكية في سوريا

فمنذ السبعينات بنت “دمشق” تحالفاتها مع ما كان يسمّى “المعسكر الاشتراكي”، وفي مقدمته “الاتحاد السوفييتي” و”الصين”، ثم أضافت “إيران” إلى قائمة تحالفاتها، وتحوّل التحالف إلى خضوع شبه كلي للروس والإيرانيين خلال سنوات الثورة، فيما كان النظام يعتمد إقليمياً على تحالفات مع “ميليشيات” دون الدولة، فتحالف مع “حزب الله” وليس مع “لبنان” ومع “الحشد الشعبي” وليس مع “العراق”، ما جعل علاقاته الميليشياوية مصدر قلق لدول الجوار والعالم.

ويعود التفاوت في موقف الجانبين إلى التناقض بين سعي سوري إلى تصفير المشاكل كما قال “الشرع”، مقابل سعي “نتنياهو” لمواصلة الصراعات للإبقاء على حكومته ومستقبله السياسي الذي لا يبدو قابلاً للاستمرار خارج الحروب.

أما بعد 8 كانون الأول، فقد تمت قراءة التصريحات السورية وزيارة “الشرع” إلى “واشنطن” وتصريحات “ترامب” التي تشيد بالسلطة الجديدة، على أنها انزياح سوري نحو محور غربي خليجي تقوده “الولايات المتحدة”، وتضمّن ذلك انضمام “سوريا” رسمياً إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، ليصبح وجود قوات التحالف في الأراضي السورية شرعياً للمرة الأولى منذ إنشائه.

العلاقة مع كيان الاحتلال

تتخبط التصريحات الإسرائيلية بين ما ينسبه رئيس حكومة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” لنفسه بأنه أسقط “الأسد”، وبين الموقف المتحفّز من السلطات الجديدة في “دمشق”، والتي قامت بدورها منذ اللحظة الأولى بتوجيه رسائل تطمينية بأنها لن تكون مصدر خطر لدول الجوار بما فيهم كيان الاحتلال.

لكن تلك الرسائل لم تكن كافية لـ”تل أبيب” التي انفلت عقال جموحها للعنف منذ 7 تشرين الأول 2023، فعلى الرغم من سقوط “الأسد” وخروج حلفائه الإيرانيين و”حزب الله” من “سوريا” الذين كان الكيان يتذرع بوجودهم لاستهداف الأراضي السورية، فقد بادرت قوات الاحتلال ومنذ الأيام الأولى لسقوط النظام إلى استهداف مواقع عسكرية سورية تضم آليات ومعدات قضت عليها الغارات الإسرائيلية لتجرّد الجيش السوري الجديد من أدوات القوة.

إسرائيل تشن 300 غارة على سوريا ونتنياهو يشكر ترامب على الجولان السوري

إضافةً إلى ذلك، بادرت قوات الاحتلال إلى اعتبار اتفاق فصل القوات 1974 لاغياً بسقوط نظام الأسد، فاحتلت المنطقة العازلة على حدود “الجولان” ووصلت إلى “جبل الشيخ”، وواصلت توغلاتها في القرى والبلدات السورية بشكل شبه يومي وبذرائع مختلفة مثل ما فعلت مؤخراً في بلدة “بيت جن”.

توغل إسرائيلي في بيت جن _ انترنت

ولم يبدِ الاحتلال موقفاً واضحاً من الانفتاح السوري على التفاوض برعاية أمريكية، والذي تريد منه “دمشق” العودة إلى اتفاق فصل القوات أو اتفاق يشبهه، بما يضمن الاستقرار في الجنوب السوري ووقف الانتهاكات الإسرائيلية، بينما تتحدث وسائل إعلام عبرية عن أن حكومة الاحتلال تطلب اتفاق “تطبيع وسلام” وليس مجرد اتفاق أمني، علماً أن الرئيس السوري سبق وأن استبعد انضمام “سوريا” للاتفاقات الإبراهيمية مع الكيان،

ويعود التفاوت في موقف الجانبين إلى التناقض بين سعي سوري إلى تصفير المشاكل كما قال “الشرع“، مقابل سعي “نتنياهو” لمواصلة الصراعات للإبقاء على حكومته ومستقبله السياسي الذي لا يبدو قابلاً للاستمرار خارج الحروب.

العلاقة مع روسيا

تعد العلاقة مع روسيا من أعقد الملفات على أجندة السياسة الخارجية السورية، حيث تتراوح بين مساعي الحكومة السورية لعدم خلق حالة عداء مع “موسكو” والتلميح إلى دور روسي في سقوط النظام عبر عدم المشاركة في معركة “ردع العدوان” دفاعاً عنه، مقابل استياءٍ شعبي من هذه العلاقة بسبب الدعم الروسي العسكري المباشر للنظام خلال سنوات الثورة وما سببه من دمار وضحايا.

فبينما احتفظت روسيا بقواعدها العسكرية في سوريا حتى بعد سقوط الأسد، فقد سارعت لإرسال نائب وزير خارجيتها “ميخائيل بوغدانوف” على رأس وفد رسمي في كانون الثاني 2025، إلى “دمشق” للاجتماعات بالقيادة السورية الجديدة.

صحيفة حكومية: زيارة الرئيس لموسكو تعزز قدرة الدولة على حماية شعبها

في حين، تجاهل الرئيس السوري العواقب على الصعيد الشعبي وبادر لزيارة “موسكو” في تشرين الأول الماضي، والتقى نظيره الروسي “فلاديمير بوتين”، على وقع مطالبات شعبية بأن توجّه سوريا رسمياً طلباً للسلطات الروسية من أجل تسليم “بشار الأسد” الذي لاذ بالفرار إلى روسيا، لكن هذا الطلب لم يكن حاضراً في اجتماع الرئيسين.

رئاسة الجمهورية في سوريا قالت أن اجتماع الرئيسين ركّز على تطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات، بينما تحدثت تسريبات عن أولويات روسية في سوريا تتمحور حول ملفات الطاقة والمساعدة في تسليح وتدريب الجيش السوري الجديد، وضمان المشاركة في إعادة الإعمار، بينما تسعى دمشق لإعادة رسم العلاقة مع روسيا من بوابة إعادة صياغة ووضع الأطر القانونية للاتفاقيات الموقّعة مع الجانب الروسي في عهد نظام الأسد، وضمان عدم تحوّل “روسيا” إلى عدو لا سيما في هذه المرحلة خاصة وأنها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن بما يعنيه ذلك من قوة حقها في “الفيتو” على أي قرار دولي، إضافة إلى تطلع الحكومة السورية نحو إيجاد توافق مشترك حول مسألة القواعد العسكرية الروسية ومستقبلها في سوريا.

العلاقة مع إيران

انفردت “إيران” بكونها الدولة الوحيدة التي لم تتجه الإدارة السورية الجديدة نحو الانفتاح تجاهها، وحافظت على جفاءٍ متوقّع نحوها بصفتها أشدّ الداعمين الإقليميين للنظام السابق.

رغم ذلك، فإن الرئيس “الشرع” قال في أيلول الماضي إنه بالنسبة لإيران كان الجرح أعمق، ورغم ذلك لا يمكن القول أن القطيعة ستكون دائمة مع “إيران” وفق ما نقلت عنه “الإخبارية السورية”.

مواجهات إيران والاحتلال في السماء السورية .. مسيّرات وشظايا تهدد المدنيين

في وقتٍ لم يخفِ فيه المسؤولون الإيرانيون خيبتهم من هزيمة نظام الأسد، ومعاداتهم للإدارة الجديدة في “دمشق” بما في ذلك تصريحات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “علي خامنئي” التي اعتبر فيها سقوط نظام الأسد “مؤامرة خارجية”.

وبطبيعة الحال، فإن الحالة الشعبية في الداخل السوري عموماً لا تتقبّل بسهولة استعادة العلاقات مع “طهران” بعد دورها الداعم بالعتاد والرجال والأموال للنظام السابق، ومشاركتها في أشدّ المعارك ضراوة للدفاع عن الأسد حتى أيامه الأخيرة، علماً أن فك التحالف مع “إيران” كان شرطاً دائم الحضور في مفاوضات الدول الإقليمية والغربية مع نظام الأسد، الذي تشبّث بهذا التحالف إلى أن انهار قبل عام من اليوم.

براغماتية سوريا الجديدة

كثيراً ما تم وصف السياسة الخارجية السورية بعد سقوط النظام بأنها “براغماتية”، تولي الأهمية القصوى للمصلحة السورية العملية دون شعارات كبرى ولا خطابات شعبوية، فلا مشكلة لديها بمفاوضات مباشرة مع كيان الاحتلال إن كانت ستفضي إلى استعادة الأراضي المحتلة بعد 8 كانون الأول وتوقف انتهاكات الاحتلال، وليست معنيّة في أن تناصب “الولايات المتحدة” العداء للقول أنها قلعة الصمود والمقاومة، ولا تتوانَ عن الخوض في علاقة مع روسيا بعد سنوات من العداء من أجل ضمان عدم وضع روسيا في خانة العدو بما تملكه من قوة ونفوذ دولي.

المشهد السياسي السوري محلياً ودولياً شروط ومخاوف يقابلها تطمينات

لقد تغيّرت مكانة سوريا كليّاً بعد سقوط نظام الأسد، بدءاً من الاحتضان العربي الواسع والخليجي تحديداً، مروراً بالانفتاح الدولي العارم تجاه القيادة الجديدة وتخطي ماضيها من تصنيف على قوائم الإرهاب، وصولاً إلى رفع جزء واسع من العقوبات الغربية والأمريكية بهدف إنعاش الاقتصاد المتداعي بعد 14 عاماً من الحرب.

تحوّلت “سوريا” من دولة كانت ضمن “رعاة الإرهاب”، إلى دولة تحظى بدعم دولي لاستقرارها وعروض للمساعدة في انطلاق إعادة إعمارها ومشاريع تنميتها، وربما لا ينقص هذا التحوّل الخارجي سوى تسوية الملفات الداخلية وحلّ النزاعات مع أطراف الداخل بطرق سلمية تفضي إلى حكمٍ تشاركي تنخرط به كافة الأطراف السورية لتستفيد من الظرف الدولي الداعم للبلاد.

زر الذهاب إلى الأعلى