الرئيسيةتقارير

تحطيم خطوط الصراع.. عندما وحدت لحظة إسقاط الأسد سوريا لأول مرة

سامية عادت إلى حضن أمها، ودموع صديقتها، ورائحة البحر الذي كبر أطفالها دونه

على مدى سنوات بدت خطوط الصراع في سوريا ثابتة، وتقسمت البلاد إلى جغرافيات سميت أحياناً على أساس الاتجاهات، شمال غرب وشمال شرق، ومناطق الجنوب وخصوصيتها، وكذلك الجغرافيا التي يسيطر عليها النظام. بدت سوريا على الخارطة مناطق سيطرة ونفوذ بينما كانت في قلوب السوريين والسوريات دولة موحدة وما أن سقط الأسد حتى عبروا خطوط الصراع ووصلوا إلى بعضهم بعضهم.

سناك سوري-وفاء أحمد

ومع الساعات الأولى للسقوط، لم يكن السوريون بحاجة لخرائط جديدة كي يدلوا طريقهم لبعضهم، عبر الناس الحدود التي صممت لسنوات كي تكون خطوط فصل لا خطوط وصل، ابن درعا اتجه نحو السويداء ليزور أقرباء لم يرهم منذ عقد، وابن إدلب شد الطريق نحو اللاذقية، ودير الزور مدت يدها نحو الرقة، والمدن التي كانت تعرف سابقاً بحواجزها لا بأسمائها عادت تتنفس بعضها بعضاً.

لم ينتظر الناس بيانات رسمية، ولا ترتيبات سياسية، تصرفوا بفطرتهم الأولى أن البلد واحد، وأن الطريق الذي كان مغلقاً بالأمس صار مفتوحاً بمجرد أن سقط من أغلقه.

سامية.. من الخوف إلى الطريق

في خضم هذا المشهد الواسع، كانت “سامية” واحدة من آلاف الذين قرروا أن يقطعوا الخوف قبل أن يقطعوا الطريق، الأم التي أمضت ليلة السادس والسابع من كانون الأول 2024 بين أشجار الزيتون قرب مدينتها إدلب خوفاً من “برميل انتقام”، جاءها خبر قوي بما يكفي ليهز عالمها “لقد سقط”، نظرت إلى أطفالها، ثم إلى السماء، وكأنها تنتظر تأكيدا من جهة ما، كانت ما تزال تلبس ثياب الفرار، لكنها نهضت، لم تكن بحاجة إلى شيء، يكفي أنها نجَت، يكفي أنهم نجو.

ذهبت فوراً إلى “الجبانة”، وقفت أمام قبر زوجها وطفلها وأخبرتهم بأن كل شيء انتهى، “كان عمر ابني 3 سنين إلا 3 أيام”، تقول ثم تصمت، متحدثة عن خطوتها الأولى خارج سجن طويل امتد 14 عاماً، كانت فيها سجينة خوف وفقد، 11 عاماً مرّت قبل أن تتمكن من رؤية أهلها الذين يعيشون في حمص، و15 عاماً لم تزر فيها البحر، و25 عاماً لم تلتق فيها صديقاتها في اللاذقية وبانياس، فجر 8 كانون الأول، بات كل هذا من الماضي.

ثلاثة أيام فقط فصلت بين لحظة سقوط النظام، وبين انفتاح الطرقات التي كانت مغلقة كالشرايين المقطوعة، حملت الأم أبناءها، وانطلقت نحو حمص، نحو بيت العائلة الذي غابت عنه لأحد عشر عاماً، لم تكن تصدق أن هذه اللحظة ستأتي حقاً، طوال الطريق، كانت تتلفت بدهشة، كأنها تسير في حلم لا ينتمي لهذا الزمن.

عند الباب، سبقتها دموعها، فتحت أمها ومن خلفها وقف والدها “كانوا كبرانين كتير”، غيّرت السنوات ملامحهما، عانقت والدتها وسط بحر دموع، أما والدها، فبقي واقفا أمامها، ينظر طويلاً قبل أن يمد ذراعيه ويضمها.

“ماما عملت عملية قلب مفتوح ومرارة، وكان لازم كون حدها”، تهمس ثم تتابع حديثها كمن يعتذر للعمر الذي مضى..

رحلة بين المدن العالقة بالذاكرة

من حمص، تابعت الأم الشابة رحلتها نحو المدن التي تحفظ وجوه صديقاتها، في بانياس، حيّ القصور تحديداً، طرقت باب “لورين”، صديقة الطفولة التي لم ترها منذ عام 2008، كان اللقاء كمن يفتح خزانة مليئة بالذكريات، الشاليهات، البحر، السهرات، الضحكات، لم تصدق لورين عينيها حين رأتها، ولم تتمالك دموعها، “رجعتي؟ عنجد رجعتي؟”، قالتها بين العناق والصمت، بينما كان أولادها يتلفتون بدهشة، يرون البحر للمرة الأولى في حياتهم.

بانياس لم تكن مدينة عابرة في ذاكرتها، بل كانت المحطة الثانية بعد إدلب في قلبها، كانت المدينة التي أحبت ناسها، شوارعها، لافتاتها، حتى حين قرأت عبارة “حريصون وسربيون”، لم تتمالك نفسها، وانهارت بالبكاء.

الآخ في سوريا الجديدة.. من فمٍ لم يكن يجرؤ الهمس إلى شارع بات يصرخ

وفي اللاذقية، كان اللقاء مع أم حيدر، جارتها السابقة التي انتقلت من إدلب قبل سنوات، ورغم أن ولا واحدة منهما كانت تستطيع زيارة الأخرى، إلا أن التواصل لم ينقطع خلال سنوات الموت والحرب، العلاقة التي بدأت بإعجاب بطفل صغير، تحولت مع الوقت إلى صداقة عميقة، كانت “سامية” تحب ابن جارتها لدرجة أنها سمّت طفلها الراحل على اسمه “حيدرة” وعندما استشهد ابنها في الحرب، ظلّ الاسم حياً في البيت، وفي الذاكرة، “كبر حيدرة ابنها وصار بالجامعة، وأنا ما شفتو من وقت ما كان عمره ست سنين”، قالتها بصوت خافت، وهي تنظر إليه بدهشة، كأنها ترى الزمن يمشي واقفاً أمامها.

لم تكن الرحلة مجرد تنقل بين مدن، “شعور حلو أنك تحس إنو سوريا رجعت وحدة”، تقول سامية، وهي تتحدث عن إحساسها برؤية المحافظات متصلة ببعضها من جديد، بلا حواجز، بلا خوف، بلا انفصال.

عند عودتها إلى إدلب، فعلت خط هاتف سوري للمرة الأولى منذ سنوات، لكنها بقيت أياماً لا تعرف كيف ترسل رسالة، أو تفعل البيانات، الشبكة التي كانت محرومة منها 15 عاماً بدت كأنها لغة جديدة، أو مفتاح لعالم انقطع عنها تماماً.

“صرنا نستخدم الشبكة السورية وكأننا عم نرجع نحكي مع بلدنا”، تقول بابتسامة صغيرة، قبل أن تضيف: “كل شي عشناه من قصف وضرب وتهجير صار ذكرى… ما بدنا ينعاد، والمهم إنه خلصنا من الطاغية”.

6 سنوات محبوساً في قريته.. عمار استعاد حقوقه المدنية فجر 8 كانون الأول

المدن تحررت من لغة الحرب

لم يعد السوريون يستخدمون تعابير “الشمال” و”المناطق المحررة” و”منطقة النظام” و”الشرق” كما لو أنها دساتير ثابتة، فجأة، عادت الأسماء إلى معانيها الأولى، حلب مدينة وليست جبهة، إدلب محافظة لا خندق، حمص قلب سوريا لا نقطة فصل.

تحررت المدن من لغة الحرب كما تحررت من سلطتها، وعاد الناس ليتحدثوا عن الطريق بين طرطوس وحماة، لا عن الخط الفاصل بين منطقتين.

في تلك الأيام، شعر كثيرون أن شعور الانتماء الذي ظنوه مات عاد يتنفس من جديد، لم يكن السوريون يحتفلون بسقوط النظام بقدر ما كانوا يحتفلون بسقوط الحواجز بين بعضهم، بدا الأمر كما لو أن البلد تتذكر نفسها، وتشير إلى أبنائها بأن يقتربوا قليلاً.. فقد طال البعد بما يكفي.

زر الذهاب إلى الأعلى