الآخ في سوريا الجديدة.. من فمٍ لم يكن يجرؤ الهمس إلى شارع بات يصرخ
بعد التغيير.. الشارع وبائع الفول وسائق التاكسي صاروا "صديق"
لم تعد الأرصفة تحت المراقبة، ولا الساحات محظورة على كل من قرر أن يرفع صوته، صار الشارع لنا، والصوت حراً، حتى لو جاء مكسوراً، غاضباً، أو مشوشاً، في مثل هذا اليوم استعدنا كسوريين القدرة على قول “آخ”.. وبتنا نسمع.. أحياناً.
سناك سوري-رحاب تامر
لكن “الآخ” لم تبق فقط في سياق الذاكرة أو الغضب القديم، بل خرجت هذه المرة في وجه قرارات حاضرة، مسّت لقمة العيش وكرامة الناس.
الشارع الذي امتلأ بالسوريبن بدايةً للاحتفال بنهاية نظام بشار الأسد، تحول إلى ساحة للفرح والاحتفال في وقته وساحة احتجاج حقيقي عندما يلزم، ساحة يُرفع فيها الصوت للتعبير.
في الشارع وقف موظفون وموظفات، عمال ومعلمات، يرفعون أصواتهم رفضاً للإجازات القسرية التي فرضتها حكومة “محمد البشير”، كذلك ضد الفصل التعسفي، والقرارات التي بدت وكأنها تعاقب الناس بإثم نظام اختاروا أن يخشوه ويخافوه تحت وطأة رعب صيدنايا وهول فرع فلسطين.

ما بدأ بـ”آخ”، يجب أن يكتمل بجملة مفيدة، وما بدأ بشارع، لابد أن ينتهي بوطن يتسع للجميع
لاحقاً خرج محتجون يطالبون بالأمن والامان والعدالة، وفي أيلول الماضي شهدت مدينة حلب لوحدها 6 اعتصامات، لمكفوفين يريدون حقهم بالدستور، وسائقو شاحنات يبتغون حقوقهم بالاحتجاج السلمي وغيرها، ما كان لتلك الاعتصامات أن ترى النور، ولا لهذه الأصوات أن ترتفع في وضح النهار، لولا لحظة واحدة غيرت مجرى التاريخ السوري الحديث “سقوط نظام الأسد”.
لن أرحم أحداً .. مسؤول أمني يهدّد سائقي الشاحنات المعتصمين في حمص
النظام الذي حكم بالخوف، وسوى البلاد بساطور الأمن، كان يمسك الشارع كما يمسك الحلق، يخنق، ويمنع، ويعاقب حتى على النفس الزائد، في مخيلتنا كان سائق التاكسي عنصر أمن متخفي، وبائع الفول، والذرة، كنا نخشى الحيطان أن تشي بلحظة غضب صرخت داخلها، واليوم كسرنا الحيطان وبات السائق والبائع “صديق”!
سقوطه لم يكن مجرد تغيير سياسي، بل كان انهيارا لأقسى حصانة منعتنا من قول “لا”، حتى في أبسط حقوقنا، لم يكن ممكناً، قبل تلك اللحظة، أن يجتمع موظفون للمطالبة بحقوقهم أو حتى أن يتنظموا في نقابة مستقلة تدافع عنهم، أو أن تقف نساء في الساحات وهن يهتفن ضد قرارات تعسفية صادرة عن سلطة، أو أن يقولوا لا في السياسة، أو لا في الاقتصاد، أو أن يطالبوا بحقوق ووإلخ.
هذا المشهد كان يقمع قبل أن يفكر فيه أحد، واليوم يحدث..
لم يتوقف الانهيار عند حدود الخوف، بل تساقطت معه جدران العزل التي فرقت السوريين عن بعضهم لسنوات، للمرة الأولى منذ 14 سنة، فتحت الجغرافيا السورية أبوابها لبعضها.
مدن كانت مرسومة في ذاكرة بعضها كأعداء، صارت تتبادل الزيارات والمواقف واللافتات، الأصوات التي كانت تسمع من خلف الشاشات فقط، باتت تسمع وجهاً لوجه، في الشارع ذاته.

نعم، كان هناك خطاب كراهية.. في لحظة انكسار الخوف، خلط البعض بين حرية التعبير وبين صراخ الغضب المكبوت، خرجت الكلمات قاسية، جارحة، تحمل ملامح انتقام لا عدالة، لكنها ربما تكون تفريغ مؤقت فالصوت الذي ظل صامتاً لعقود خرج مرة واحدة مأخوذاً بقوة اللحظة، دون وعي كاف.
سقوطه لم يكن مجرد تغيير سياسي، بل كان انهيارا لأقسى حصانة منعتنا من قول “لا”، حتى في أبسط حقوقنا، لم يكن ممكناً، قبل تلك اللحظة
كان لابد من المرور بتلك المرحلة، كضرورة للشفاء، البلاد التي خنقت طويلاً، لا تتكلم بهدوء حين تتنفس للمرة الأولى، وكما شهدنا لحظة سقوط “الأسد”، سنشهد لحظة “عدنا مع بعضنا”.
ما بدأ بـ”آخ”، يجب أن يكتمل بجملة مفيدة، وما بدأ بشارع، لابد أن ينتهي بوطن يتسع للجميع، وسوريا التي التقينا فيها بعد أن فرقتنا خطوط صراع ومساحات عسكرية، سوريا التي خفنا منها وعليها، بلادنا التي تأخرت كثيراً بالنهوض، بدأت تقول أخيراً.. نعم نستطيع.





