الرئيسيةيوميات مواطن

موت قاسٍ في السويداء.. جثث تنتظر وأخرى تُدفن غريبة

ذكريات تموز الثقيلة.. قبور تحت أشجار الزيتون، نعوات عبر التواصل، وأجساد مكدّسة على الطرقات بلا معزّين

دُفن عمي ابن قرية الثعلة، بالريف الغربي تحت شجرة زيتون ولم يشأ القدر أن يتمكن مَن دفنه، مِن دفن جثث باقي الجيران وأهالي قريتنا، لتبقى جثثهم على قارعة الطريق، أما الأهالي الذين خرجوا أحياء مات بعضهم قهراً وحزناً ودفنوا غرباء بينما اقتصرت مراسم دفنهم على قراءة الفاتحة ونعوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

سناك سوري-رهان حبيب

صورة جديدة للموت ومراسم الدفن نعيشها في السويداء، خلقت صدمة لأهالي القرى الغربية والشمالية التي بقيت آمنة حتى الرابع عشر من تموز الفائت الذكرى الأكثر سواداً التي سببت مقتل عمي بعقده السادس، لأن عزّ عليه مغادرة قريته الثعلة وترك منزله وعمه والد زوجته العجوز الذي رفض الخروج ولم يعرف أن دخول المسلحين لمنزله سيكون نهاية حياته وحياة العشرات دون سبب.

كان هم أخي الذي خرج من القرية مع أولاده إلى مكان آمن، الحضور مرة أخرى للقرية ليتمكن من دفن عمه وتفقد قريته، ليعرف أن أعمامي وعدد كبير من رجال القرية أمضيا أربعة أيام يراقبون منازلهم تنهب ويشهر عليهم السلاح وتبقى جثث كثيرة بانتظار من يدفنها.

وجدنا لعمي مكاناً تحت شجرة زيتون كبيرة ليرقد تحت ترابها بسلام، ولم يكن لدينا متسع من الوقت إلا بضع دقائق لقراءة الفاتحة ثم الهرب من اشتباكات تجددت، أدت لاحقاً لمزيد من القتل والنزوح والسرقة تحت قوة السلاح.

يخبرني شقيقي أن جثث العديد من الجيران والأقارب ماتزال تنتظر تحت حر الشمس دون دفن، بينما لا يستطيع أقاربهم العودة لدفنهم، وبقي الحال على ماهو عليه أيام وأسابيع غريبة بكل شيء وأكثرها غرابة هذا الموت بدون دفن بدون معزين بدون قراءة الفاتحة.

اليوم السابع عشر من تموز الأسود كما بتنا نعرفه بالسويداء، نجح بعض الشبان بتجاوز منطقة تل الحديد غرباً، وحملوا أكثر من 18 جثة لاقت حتفها على قارعة الطريق وتضاعف العدد عندما دخلوا القرية، جمعوها لتدفن واستحال الدفن مع تجدد القصف ليرحل الأهل وجثث أقاربهم تنتظر، وكانت المرة الأخيرة التي يدخل الأهالي إلى قريتهم لغاية هذا اليوم دون آمال ترجى بعودة قريبة.

لم يخطر بذهن صديقتي أنها ستدفن والدتها بقرية أختها المتزوجة في قنوات، ولا ابن عمي الذي حمله إخوته عندما اشتدت الاشتباكات ليغترب جثمانه عن مسقط رأسه الثعلة ويدفن في بلدة الغارية.

هنا طال الطريق كثيراً على أخوة حسان ابن عمي الذي توفي مقنوصاً عند مدخل المدينة الجنوبي، وهو مدني ولم يحمل السلاح حاول يوم 16 تموز الالتحاق بأسرته لكن رصاص القناص كان أسرع إلى جسده ليبقى لليوم التالي في مكانه، إلى أن خرج إخوته تحت الخطر لسحب جثته، والاتجاه بها إلى قريتهم الثعلة للدفن لكن القتلة لم يتركوا لهم فرصة،لتبدأ الاشتباكات في القرية بشراسة جعلتهم ينقلون جثمانه إلى قرية صهره ليتم الدفن بحزن مضاعف من قدر سبّب اغتراب الروح واغتراب الجسد عن مسقط رأسه.

كما لم تطل أيام العم حسن 78 مريض القلب الذي خطف مع زوجته، وتحمّل ذل المعاملة وانتظر المبادلة ليعود إلى جرمانا ومنها إلى السويداء عبر معبر بصرى غير الآمن، وما أن وصل السويداء حتى توفي وكانت مراسم الدفن عبارة عن نعوة على شبكات التواصل وتم الدفن في قرية مجاورة في مدافن أحد الأنسباء وإنا لله وانا إليه لراجعون.

كما تتالت أخبار وفيات عمات وخالات وأقارب لم تتحمل قلوبهم الفراق ليصلنا نبأ الوفاة على شبكات التواصل نذرف الدمع، نحزن ولا نتمكن حتى من تقديم واجب العزاء لأن الدفن في قرى الأقارب وأي مكان مناسب متوفر، هذا هو الموت الحزين الذي لم يكن يوماً جميلاً، لكن اليوم أكثر حزناً وقسوة، أكثر وحدة لأنه هجرة ونزوح للروح والجسد عن موطنه، لكبار أمضوا حياتهم يزرعون يحصدون يفرحون ويحزنون يستقبلون ويودعون في منازلهم الكل يغادر إلا الكبار واليوم غادروا إلى الأبد واختار القدر لهم لحود خارج قراهم عند أقاربهم استقبلوهم بمحبة في محنة غريبة على هذه المنطقة التي عاشت بأمان واستقرار حتى فترة قريبة.

أخيرا اليوم وبعد شهر وخمسة أيام عثر على جثتَي شابين من أهالي قرية سقطا، حاول الأهل إقامة موقف عزاء كان المرة الأولى التي يلتقي فيها الأهالي بعد طول غياب ليتبادلوا التعازي والأخبار التي يتقدم فيها خبر الموت على أخبار النهب والحرق والسلب وفي كل يوم نبأ جديد عن أشخاص قتلوا في منازلهم يأتي بهم وفق مصادر غير مؤكدة فرق للهلال الأحمر من القرى المنكوبة يسلمونهم في منطقة تل الحديد أو أقرب منطقة للمدينة ليتم الدفن بعد أن تحللت الجثث، لكن الحزن لم يتحلل ولم يتوقف لتبقى ذكرى الفاجعة ذكرى استباحة الأمان وقتل آخر آمالنا كسوريين قتلنا بيد سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى