الحياة السياسية المخطوفة في سوريا.. هل تحررها المرحلة الانتقالية؟
سوريا أمام فرصة استثنائية للحوار بالسياسة بدلاً من العنف

لم تأخذ السياسة فرصتها في “سوريا” على مدى تاريخها الحديث إلا لفترات وجيزة لم تكن كافية للوصول إلى حالة نضج سياسي يحوّل الخلافات والصراعات إلى محطات نقاش وحوار دون الانزلاق إلى العنف.
سناك سوري _ محمد العمر
فبالعودة إلى بدايات القرن الماضي، حين كانت البلاد ترزح تحت الاحتلال العثماني أولاً ثم الفرنسي ثانياً، لم يكن المجال السياسي مفتوحاً لتشكيل أحزاب وبناء حياة سياسية، ورغم ذلك بدأت تتشكّل أحزاب وجمعيات كان يجمعها همّ الاستقلال والتخلص من الاستعمار، لكنها بقيت في إطار العمل السري والتخفّي من قمع القوى المحتلة.
ولعلّ لحظة جلاء الفرنسيين عن سوريا كانت من اللحظات القليلة التي أظهرت دور السياسة في تحقيق الغايات الكبرى، فمع اجتماع الظروف الدولية وانكفاء الدول الأوروبية تدريجياً عن الأراضي التي تحتلها خارج القارة الأوروبية، لعب الحضور السوري في المحافل الدولية دوراً في إيصال قضية السوريين إلى العالم، واقتناص اللحظة المناسبة لنيل الاستقلال.
ضمّ البرلمان الذي أفرزته تلك الانتخابات نواباً من “الإخوان المسلمين” وحزب “الشعب” يميناً، وصولاً إلى أقصى اليسار مع نائب الحزب الشيوعي “خالد بكداش” ونواب بعثيين وقوميين سوريين.
وبعد عامين فقط من الجلاء، حينما كانت البلاد تتلمّس أولى خطاها نحو خلق حياة سياسية وفضاءٍ عام يعبّر عن المزاج الشعبي وينقل إرادة المجتمع، بدأت مرحلة الانقلابات العسكرية التي أطاحت بكل مفاهيم القرار الشعبي وفرضت نفسها بأنظمة يحكمها عسكريون أمضوا السنوات التالية في صراعات يطيح خلالها كل منهم بالآخر.
انتخابات 1954 الاستثنائية
في حين، يرى العديد من المؤرخين والباحثين في التاريخ السوري، أن انتخابات 1954 كانت الأكثر ديمقراطيةً مقارنة بأي انتخابات أخرى جرت في “سوريا” منذ ذلك الحين إلى اليوم، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بتنوع مشارب النواب الناجحين في تلك الانتخابات، حيث ضمّ البرلمان الذي أفرزته تلك الانتخابات نواباً من “الإخوان المسلمين” وحزب “الشعب” يميناً، وصولاً إلى أقصى اليسار مع نائب الحزب الشيوعي “خالد بكداش” ونواب بعثيين وقوميين سوريين.
لكن هذه التجربة التي لا تزال موضع تغنّي بقيت يتيمة وأجهضت بسرعة مع إقامة دولة الوحدة مع مصر عام 1958، التي حلّت جميع الأحزاب السياسية في سوريا وأوقفت الصحف وفرضت قمعاً غير مسبوق على الحياة العامة.
المراحل التالية من تاريخ البلاد لم تكن أكثر مرونةً مع مسألة الحريات السياسية، فوصول “البعث” إلى السلطة عام 1963 قتل الكثير من هذه الطموحات، ولم يجد حرجاً أن يدرج في دستور 1973 مادة تقول بوضوح أن “البعث” هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وبالتالي لا حزب غيره ولا رأي يعلو عليه، مع إنشاء ما سمّي بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” التي ضمت في بداية إنشائها 5 أحزاب تعمل بقيادة البعث وتسير على النهج الذي يرسمه لها كما ورد في ميثاق الجبهة.
وعلى الرغم من تشكّل كيانات سياسية جديدة بعد الثورة، إلا أن أدوارها بقيت ضعيفة وظلّت شعبيتها محدودة جداً، وصارت مؤسسة مثل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة” موضع انتقاد من معارضي نظام “الأسد” قبل مواليه
لم تكن السلطة في عهد الرئيس “حافظ الأسد” لتتسامح مع وجود أحزاب سياسية تعارضها، فحوّلتها إلى تهمة انتماء لجمعية سرية، وأرفقتها بمجموعة اتهامات مثل التخطيط لقلب نظام الحكم أو الدعوة لتغيير الدستور، وغالباً ما كانت هذه الاتهامات ترفع في وجه المعتقلين أمام محاكم استثنائية لا تتوانى عن إصدار أحكام بالسجن قد تصل إلى 20 عاماً.
ربيع دمشق الباكر .. والثورة السورية
ومع بداية حكم “بشار الأسد” عام 2000 حاول بعض الناشطين السياسيين المعارضين استعادة حيّز ولو بسيط من الفضاء العام، والتقطوا إشارات خطاب القسم الذي حاول التلميح إلى بدء عهد التغيير، فانطلقت حينها “منتديات المجتمع المدني” ضمن ما عرف باسم “ربيع دمشق”، لكن النظام عاد ببساطة وتراجع عن فسحة الحرية الضيقة وتلك واعتقل رموز النشاط السياسي حينها بما فيهم أعضاء في مجلس الشعب.
وبعد عقود من التضييق وتجاهل صوت الناس وفرض الخيارات عليهم والاستهزاء بإرادتهم من خلال إجراء مسرحيات انتخابية محسومة النتائج مسبقاً، وقمع أي صوت حتى وإن تحدّث عن فساد موظف درجة عاشرة أو انتقد ممارسات مختار قرية، انفجر الشارع السوري في آذار 2011 وأشعل ثورة ضد “بشار الأسد” كانت أول شعاراتها كلمة “حرية”.
أظهر تحليل عينة الأحزاب خلال البحث أنها تتسم بضيق قاعدتها الشعبية ولا يتجاوز عدد أعضاء بعضها 1000 منتسب/ة، وتغيب عنها القيادة الجماعية على حساب اسم أو اسمين معروفين في الأوساط السياسية
المرحلة الأولى من الثورة وبالتزامن مع المظاهرات الشعبية شهدت نوعاً جديداً من التنظيمات عرف باسم “التنسيقيات” التي لعبت دوراً في تنظيم التظاهرات بدايةً وتنسيق مواعدها وتحشيد الناس للمشاركة فيها.
لكن اشتداد القمع الوحشي سرعان ما حوّل المواجهة مع النظام إلى حرب عسكرية، كان صوتها أعلى بكثير من أي دعوات للحلول السياسية، في ظل تعنّت النظام الذي اعتبر نفسه الطرف الأقوى عسكرياً ولا حاجة له لتقديم تنازلات سياسية.
وعلى الرغم من تشكّل كيانات سياسية جديدة بعد الثورة، إلا أن أدوارها بقيت ضعيفة وظلّت شعبيتها محدودة جداً، وصارت مؤسسة مثل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة” موضع انتقاد من معارضي نظام “الأسد” قبل مواليه، مقابل فرض الخيار العسكري لنفسه على الأرض.
فرصة لا تتكرر
أما اليوم وبعد سقوط نظام “بشار الأسد”، تجد “سوريا” نفسها أمام فرصة ذهبية قد لا تتكرر لإحياء الحياة السياسية وإعادة رسم ملامحها وبناء أسسها مجدداً، ومنحها الفرص التي خسرتها سابقاً ودفع السوريون ثمن ذلك عنفاً ودماراً.
وقد أجرت وحدة الأبحاث في سناك سوري بحثاً عن أزمة التمثيل السياسي في البلاد، ورصد البحث ما مجموعه 119 تنظيماً سياسياً تمثيلياً خارج إطار الدولة والنقابات، من أحزاب وحركات وتيارات سياسية، وتبيّن أن نصف هذه الأحزاب تقريباً تنشط في مناطق شمال شرق سوريا.
لا يزال موقف السلطة الجديدة من الأحزاب غامضاً، إذ لم تمنع تشكيلها ووجودها وأنشطتها، لكنها في المقابل لم تصدر إعلاناً واضحاً أو قانوناً جديداً يشرّع العمل السياسي للأحزاب.
وأظهر تحليل عينة الأحزاب خلال البحث أنها تتسم بضيق قاعدتها الشعبية ولا يتجاوز عدد أعضاء بعضها 1000 منتسب/ة، وتغيب عنها القيادة الجماعية على حساب اسم أو اسمين معروفين في الأوساط السياسية، فضلاً عن ضعف أنشطتها حيث بلغ المعدل 1.5 نشاط لكل حزب خلال 6 أشهر، وقد تركزت معظم الأنشطة في “دمشق” مع استثناءات محدودة في محافظات أخرى أكبرها في “حلب” بينما غابت تلك الأحزاب كلياً عن أي نشاط في “درعا” و”دير الزور”.
هذه النتائج والعوامل تفسّر سبب ضعف نسبة المنخرطين في تلك الأحزاب، حيث أظهرت نتائج استبيان أجريناه على عينتي بحث من النساء والشباب مجموعهم 768 أن 82.1% من المشاركين/ات مهتمون بالقضايا السياسية في المرحلة الانتقالية، لكن 4.3% فقط من النساء و2.3% من الشباب المشاركين في الاستبيان انتسبوا بالفعل إلى أحزاب سياسية بينما لم يتحوّل اهتمام البقية إلى انخراط فعلي في الأحزاب.
من جانب آخر، لا يزال موقف السلطة الجديدة من الأحزاب غامضاً، إذ لم تمنع تشكيلها ووجودها وأنشطتها، لكنها في المقابل لم تصدر إعلاناً واضحاً أو قانوناً جديداً يشرّع العمل السياسي للأحزاب.
كما يؤخذ على السلطة الجديدة أنها لم تمنح الأحزاب دوراً في المرحلة الانتقالية، سواءً حين عقدت مؤتمر “الحوار الوطني” ودعت إليه الأفراد بصفتهم الشخصية دون منح أي نسبة لممثلي الكيانات السياسية، أو حين شكّلت الحكومة دون مشاورات أو إشراك للأحزاب والقوى السياسية، وحتّى حين قررت حلّ “الائتلاف” والمؤسسات التي نشأت خلال الثورة.
تظهر كل العوامل والظروف التي تمرّ بها البلاد، أهمية منح السياسة فرصتها، عبر إنعاش الحياة السياسية وتعزيز دور الأحزاب كقنواتٍ تنقل صوت الفئات الاجتماعية وآراءها وتعبّر عن تطلعاتها، وتبقي أي خلاف محصوراً بدائرة النقاش السياسي بدلاً من العنف العسكري، لتطوي صفحة عقود طويلة من خنق الحياة السياسية واعتماد لغة القوة والعنف كوسيلة لفرض القرار.
بحث أزمة التمثيل السياسي في سوريا خلال المرحلة الانتقالية
بقي أن نشير إلى أن هذا التقرير هو جزء من بحث “أزمة التمثيل السياسي في سوريا خلال المرحلة الانتقالية” الذي أعدته وعملت عليه وحدة الأبحاث في سناك سوري، وقد اعتمدت مدخلات هذا التقرير على البحث والمقابلات المعمقة التي شملت ممثلين وممثلات عن أحزاب وقوى سياسية وناشطات ونشطاء مستقلين وأكاديميين وكذلك على المجموعات المركزة التي ضمت قرابة 80 مشاركاً ومشاركة بشكل يراعي التنوع الجغرافي والاجتماعي والسياسي والعمري بين الجنسين.
لقراءة البحث كاملاً
نسخة تفاعلية كاملة حسب العناوين والأقسام هنا
نسخة طويلة كاملة هنا