معركة هويات ما قبل الدولة بين الطائفة والعشيرة .. أين السياسة في سوريا؟
سوريا تدفع ثمن غياب الحياة السياسية بالارتداد إلى عصبيات خارج الهوية الوطنية

أثارت “أحداث السويداء” الأخيرة الكثير من الأسئلة حول دور “هويات ما قبل الدولة” في المرحلة الراهنة من تاريخ “سوريا” على حساب تغييب أدوار التنظيمات الحديثة كالأحزاب السياسية والنقابات والمجتمع المدني.
سناك سوري _ محمد العمر
وفي وقتٍ تعيش فيه البلاد حالة أحوج ما تكون فيها لدور “الدولة” كسلطة راعية ومنظّمة لعلاقات المجتمع وممثّلة لمصالحه وحامية لوحدة البلاد أرضاً وشعباً، اتخذت السلطة خطوة مستغربة وغير محسوبة العواقب حين أفسحت المجال لمسلحين يطلق عليهم تسمية “العشائر” لخوض المعركة ضد فصائل “السويداء”.
ورغم أن الأزمة بدأت من بوابة قرار “الدولة” بسط سيطرتها على كافة الأراضي وإدخال قواتها الأمنية والعسكرية إلى “السويداء” بوصفها جزءاً من “سوريا” ويجب أن تكون تحت سلطة الدولة المركزية، فإن مسار الأحداث دفع السلطة للارتداد عن هذا القرار بنقيضه الكامل.
كانت سردية السلطة تتمحور حول بسط سيطرتها على “السويداء” ورفض استمرار بقائها تحت سلطة الفصائل المحلية، وحين لم تنجح خطة فرض السيطرة بالقوة، كان خيار “دمشق” ترك الطرق مفتوحة لمسلحي “العشائر” نحو المعركة، مناقضاً لنظرية دور “الدولة” وحصر السلاح وما إلى ذلك، لناحية أن هؤلاء المسلحين أياً كانت تسميتهم قوات غير نظامية ومجموعات مسلحة من خارج إطار “الدولة” وسلاحها “منفلتٌ” أيضاً كحالِ سلاح فصائل “السويداء” التي دعت الدولة إلى ضبطه وتسليمه، لكنها تجاهلت كلياً سلاح المجموعات المسلحة المهاجمة. وهو بالمناسبة خطأ ارتكبت ذاته في أحداث “جرمانا وصحنايا” عندما هاجم مسلحون المنطقتين ولم تتم ملاحقتهم وجمع سلاحهم.
وتحوّلت المعركة بذلك إلى حربٍ بين فصائل خارج سلطة الدولة ومسلحون من عشائر خارج سلطة الدولة، فيما انسحبت “الدولة” من المشاركة الفعلية في المعركة لكنها لم تؤدِّ دورها في منع وصول أرتال العشائر المتجهة نحو السويداء من بقية المحافظات.
أزمة التنظيم وهويات ما قبل الدولة
إذا حاولنا تحليل المشهد القائم في “السويداء”، سنجد أن الفصائل المحلية فيها والتي كانت قبل هذه المعركة مختلفة فيما بينها على كثير من التفاصيل، توحّدت تحت راية واحدة منبعها طائفي وعقيدتها “حماية الطائفة من خطر وجودي يتهددها”، أي أنها حملت هويتها الطائفية كوسيلة لحشد الأنصار والمقاتلين، وبذلك كان من الطبيعي أن يتحوّل شيخ العقل “حكمت الهجري” إلى قائد للمواجهة، وكان من السهل أن ينظّم المقاتلون أنفسهم في ظل عنوان جامعٍ لهم هو “الطائفة”.
على الطرف المقابل، تنظّم أبناء العشائر تحت عنوان واحد يحمل إحدى هويات ما قبل الدولة أيضاً وهو “العشيرة”، حاملين ولاءهم لعشائرهم كعقيدة تجمع صفوفهم في المعركة، مدفوعين بأخبار ومشاهد الاعتداء على “بدو السويداء” من قبل الفصائل “الدرزية”، ليتحوّلوا إلى جيش موازٍ أيضاً خارج نطاق الدولة، يقاتل تحت راية “العشيرة”.
المعركة إذن بين “الطائفة” و”العشيرة”، وهنا لا وجود لا لـ”الدولة الحديثة” ولا لـ“الهوية الوطنية الجامعة”، بل الردة إلى عصبيات ما قبل نشوء الدول، وما يعنيه ذلك من فوضى تابعنا مشاهدها ومآلاتها في المواجهات الدامية التي لم تعرف الرحمة، وكان من الطبيعي في معركة من هذا النوع أن ينسى المشاركون فيها أن ما يوحّدهم جميعاً أنهم “سوريون” قبل أن يكونوا أبناء “الطائفة” أو “العشيرة”.
أين التنظيمات السياسية؟
في مفاهيم “الدولة الحديثة” لا تقوم التجمعات والتنظيمات على أسس “طائفية أو قبلية أو عرقية أو إثنية”، بل يتم تجميع الناس وتحشيدهم على أساس الهويات “المصلحية”، فينتظم أصحاب المصلحة في حزب يدافع عنهم، لنجد مثلاً حزباً عمالياً وحزباً رأسمالياً وحزباً ليبرالياً وحزب محافظاً … إلخ.
وحين يتم حشد الناس على أساس المصلحة، لا يؤخذ بعين الاعتبار طوائفهم أو عشائرهم أو أعراقهم، فطبقة العمال مثلاً تضم أشخاصاً من كل الطوائف والمذاهب والقبائل والأعراق، وكذلك طبقة أرباب العمل، وطبقة المثقفين وغيرها.
أما في “سوريا” فقد عانت الحياة السياسية والحزبية من اختناق طويل الأمد على مدار 6 عقود منذ انقلاب “البعث”، وتم طمس معالمها وتغييب المجتمع عنها بل وترهيبه من مخاطر الانخراط في أي تنظيم أو حزب، لأن ذلك يخالف إرادة “النظام الحاكم”.
ولم يكن من السهل بعد سقوط النظام، أن تستعيد البلاد الحياة السياسية بكبسة زر، ومن البديهي أن الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية تحتاج وقتاً طويلاً لإعادة التعريف عن نفسها وتعبئة الأنصار وحشد المحازبين لتمتلك وزناً في المجال العام.
إلا أن “السلطة الجديدة” لم تدفع باتجاه هذا المسار، بل اتخذت مساراً مناقضاً له حين تعاملت مع المجتمع بهوياته البدائية، فقسّمته على أسس طائفية أو عشائرية أو عرقية، وتعاملت مع رموز ورجال الطوائف والعشائر كقادة لمجتمعاتهم، على حساب تجاهل السياسيين والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني في معظم الحالات، ما أدى إلى ما نحن فيه اليوم من عودة لهويات ماقبل الدولة لاسباب مختلفة منها الخوف والقلق والشعور بالتهديد.