أزمة السويداء .. الهوّة بين السلطة وأدواتها واختبار الانتقال لعقلية الدولة
طريق واحد لحل أزمة الاستعصاء السياسي .. والتفرّد يقود البلاد للمجهول

لا يمكن عزل الأزمة الراهنة حالياً في “السويداء” عن سياق الأحداث التي تتابعت في “سوريا” منذ سقوط نظام “بشار الأسد” ووصول “أحمد الشرع” إلى رئاسة الدولة.
سناك سوري _ زياد محسن
ومنذ “مؤتمر النصر” وإعلان الفصائل العسكرية اختيارها لـ”الشرع” رئيساً للجمهورية، تعالت الأصوات المحلية والدولية الداعية لاعتماد مبدأ التشاركية في الحكم الجديد، والعمل على تمثيل كل السوريين في مواقع السلطة، والتخلص من إرث حكم اللون الواحد والحزب الواحد الذي امتدّ لعقود في عهد النظام السابق.
إثر ذلك، تمت الدعوة لمؤتمر “الحوار الوطني” والذي كان من المفترض أن يكون بوابة لمرحلة انتقالية تتشكّل فيها حكومة جامعة بمشاركة مختلف القوى والمكونات، إلا أن هذه الآمال خابت بعد عقد المؤتمر بصورة مستعجلة لاقت الكثير من الانتقادات، ثم تشكيل الحكومة من طرف واحد وعدم إشراك أي قوة سياسية في تشكيلتها واقتصار المشاركة على شخصيات “تكنوقراطية” ثم إصدار إعلان دستوري دون مشاورات مع الأطراف السياسية والاجتماعية في البلاد، وحتى سيل التعيينات في مختلف المناصب والتي اتّسمت في معظمها بكونها تقتصر على أعضاء “هيئة تحرير الشام” أو المقرّبين منها.
بالمقابل فإن إعادة بناء المؤسسات شهدت انفراداً في تكوينات القوى المسلحة الرسمية، حيث لم تنضم شرائح واسعة من المكونات السورية إلى هذه القوى، التي اعتمدت على الفصائل المسلحة في مقدمتها “الجيش الوطني” والفصائل التي تحالفت مع “هيئة تحرير الشام” في معركة “ردع العدوان”.
إلا ان عملية الإعداد وبناء المؤسسات لم تنجح في الانتقال من عقل الفصيل إلى عقل الدولة، ولا تظهر السلوكيات التي تمت ممارستها في مناطق مختلفة من البلاد أن جميع العناصر تحولوا إلى ممثلين عن الدولة وعليهم الالتزام بقوانينها وبقواعد القانون وسلوكيات الدولة ومنهجية حقوق الانسان في التعامل والعمل، وأن دورهم حماية المواطنين وليس قتلهم أو حلق شواربهم.
مجازر الساحل هزّت شرعية السلطة
المحطة الأهم في المرحلة الماضية، كانت في آذار حين اندلعت أحداث الساحل السوري، والتي أسفرت عن ارتكاب مجازر طائفية بحق سكان الساحل، بعد استهداف قوات “الأمن العام” على يد من وصفتهم “دمشق” بـ”فلول النظام”، الأمر الذي أدى لانتشار دعوات “النفير العام” و”الجهاد” دعماً لقوى الأمن، ليتشكّل مشهد من الفوضى والانتهاكات التي وصلت إلى حد ارتكاب مجازر على أساس طائفي تحت عنوان محاربة “الفلول”.
خلقت السلطة سرديتها عن الأحداث، ثم اعترفت تحت ضغط الشارع والمجتمع الدولي بوقوع الانتهاكات نظراً لحجمها الكارثي، وأعلنت تشكيل لجنة تحقيق فيما حدث لكنها لم تخرج بأي نتيجة رغم انتهاء مهلتها المحدّدة في قرار الرئاسة بتشكيلها.
كانت تلك الانتهاكات جرس إنذار للسلطة نفسها، بأن انفلات عقال السلاح حتى ولو أخذ عنواناً “رسمياً” وأصبح نظرياً “جيشاً للدولة”، فإن ممارساته لا تزال عند حدود فكر “الفصائل” التي كانت تخوض معركة بلا قواعد في مواجهة النظام السابق.
أحداث السويداء .. الهوة بين السلطة وأدواتها
وكما يبدو فإن هذا الإنذار لم يكن كافياً، وكانت “البروفا” الأولية في أحداث “جرمانا” و”أشرفية صحنايا” أواخر نيسان الماضي، ثم جاء الحدث الأخير في “السويداء” مع إعلان وزارتي الدفاع والداخلية توجيه قواتهما إلى المحافظة لفض النزاع بين الفصائل المحلية والعشائر.
لكن القوات التي جاءت بعنوان فض النزاع وإرساء الأمن تحوّلت إلى طرف في الصراع، وتحقّقت المخاوف من تكرار سيناريو الساحل، حيث بدأت عمليات القتل خارج نطاق القانون وعلى أساس طائفي، وانتشرت مقاطع مصورة توثّق الانتهاكات بحق المدنيين والشيوخ وفيديوهات “حلق الشوارب” كرمز لإهانة أبناء المحافظة، فضلاً عن أعمال النهب وحرق الممتلكات وقبل كل ذلك اعمال القتل العشوائي.
كانت هذه الانتهاكات تحدث رغم توجيهات وزارتي الدفاع والداخلية، وحتى رغم بيان رئاسة الجمهورية الذي حذّر من ارتكاب أي انتهاك، فيما كانت تنتشر بموازاة ذلك دعوات لـ”النفير” و”الجهاد” من بقية المحافظات دعماً لقوى الأمن، تماماً كما حدث في الساحل، وبدأت صفحات تتحدّث عن 200 ضحية من الأمن العام دون أن توضح مصدرها، ودون أن تعلن أي جهة رسمية وجود مثل هذا الرقم من ضحايا القوى الأمنية والعسكرية، لكن تلك المنشورات كانت تستخدم هذه المعلومة لمزيد من التجييش والتحريض مع رفع شعار “حصر السلاح بيد الدولة” و”فرض هيبة الدولة”.
الفرق بين الدولة والمجموعات الخارجة عن القانون
عندما ترتكب عصابات خارجة عن القانون انتهاكات وجرائم، فإن مسؤولية الدولة تكمن في التدخل الحازم لوقف هذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، لا في تقليدهم أو التواطؤ معهم. ولا يُقاس سلوك الدولة بسلوك العصابات؛ فالعصابة بطبيعتها كيان منحرف، أما الدولة فهي كيان يُفترض أن يحتكم للقانون ويحميه. وعندما تهبط الدولة إلى مستوى العصابات، فإنها لا تفقد فقط تمايزها الأخلاقي، بل تسقط شرعيتها وتتحول من ضامن للأمن إلى طرف في الفوضى. لذا، حين ترتكب الدولة أفعالاً مشابهة، لا يُقال “انظروا إلى ما فعلته العصابات”، بل يُقال: لقد أخفقت الدولة في بناء مؤسسة أمنية محترفة، وعليها أن تُصلح منظومتها من الجذور، وتطهر صفوفها، وتخضع عناصرها للمحاسبة والتدريب الصارم، بدل الزجّ بهم دون كفاءة أو التزام.
لكن المفترض أن “الدولة” أرسلت أجهزتها لمنع الانتهاكات لا لارتكابها، وأن تتكفّل “الدولة” بحماية أبناء المحافظة بصفتهم مواطنين في هذه الدولة من أي انتهاك لكراماتهم وحرياتهم ومقدساتهم الدينية.
وأثار ذلك تساؤلات عن مدى انصياع القوات المشاركة في القتال لأوامر وتعليمات القيادة العليا، على اعتبار أنها أصبحت قوات نظامية وليست “فصائل” تعمل كل منها على هواها، وهل يكفي أن تغيّر القيادة عقليتها وتنتقل لعقلية الدولة، دون أن تتغيّر عقلية أدواتها وعناصرها وبالتالي ممارساتها على الأرض، وهل تتحوّل أدوات السلطة إلى تهديد لها؟ خاصة إن بقي الباب مفتوحاً أمام انتهاكات مستقبلية في ظل غياب محاسبة علنية وواضحة ورادعة لمرتكبي الانتهاكات السابقة.
التحدي الأهم اليوم هو أن تتعامل السلطة حقاً بمنطق الدولة، وتفرض هيبتها وقرارها على جنودها أولاً، وأن تفتح باب الحوار الحقيقي والصادق وباب المشاركة الحقيقية في الحكم لتنهي حالة الاستعصاء السياسي التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، وأبقتها على حافة انفجار جديد محتمل في أي لحظة وفي أي منطقة أخرى.
والأزمة اليوم لا تخرج في سياقها عن إطار حل واحد طريقه السياسة وهدفه التشاركية وأداته الحوار، ولا يزيدها التجييش والتحريض إلا تعمّقاً وشرخاً يهدّد البلاد ولا تدفعها الحلول العسكرية والعنفية إلا نحو مزيد من الدماء والدمار.