أيُّ سوريا بعد 10 سنوات؟ … صراع قسّم المجتمع وكارثة اقتصادية لبلد مدمّر
بانتظار تعب الأطراف من الحرب .. كيف ستخرج سوريا من أزمتها التاريخية؟
لا ينجح التفكير بمستقبل “سوريا” بعد 10 سنوات مثلاً في إيجاد صورة تفاؤلية تعبّر عن جيل شاب يعيش في البلاد ويبحث عن أفق لمواصلة حياته فيها.
سناك سوري _ محمد العمر
مجرد تخيل الصورة التي يتوقعها السوري لبلاده بعد عشر سنوات، يكفي لمعرفة إلى أي يأس وصل، وإذا كنا نريد التفكير بمنطقية وليس على طريقة التنجيم والتبصير فعلينا أن نقرأ المعطيات التي نملكها بين أيدينا لبناء صورة متخيلة عن سوريا بعد عشر سنوات، وهي ليست صورة واحدة حتمية بالطبع بل عدة احتمالات مبنية على تغير العوامل والأحداث خلال السنوات العشر المقبلة.
طبيعة الصراع من حيث الزمن
لم يعد خافياً على أحد أن الصراع في سوريا يتصف بكونه طويل الأمد، فما بدأ قبل 13 عاماً لا تلوح في الأفق أي بوادر لنهايته اليوم.
عموماً فإن صراعات المنطقة إذا ما أردنا المقارنة تتصف بكونها طويلة الأمد، وبالتحديد الصراعات الداخلية على غرار ما بدأ في سوريا.
ففي النموذج اللبناني مثلاً كانت تكفي حادثة “بوسطة عين الرمانة” لإدخال البلاد في حرب طالت 15 عاماً، وانتهت بحل هبط من الخارج وفرض قسراً على أطراف النزاع تاركاً البلاد على حافة حرب أهلية مقبلة محتملة في أي لحظة، الأمر الذي كاد أن يتحقق بعد 15 عاماً من نهاية الحرب الأولى حين انقسم لبنان عام 2005، ثم عاد لاحتمال الانفجار الكبير عام 2019 الذي طوّقته قوى السلطة كي لا يتحول غضب الشارع نحوها وتحافظ على تفريغه في صراعات أهلية طائفية لا صراع ثورة ونظام.
انقسمت البيئات السورية بشكل مذهل بين ثلاث مناطق نفوذ على الأقل لكل منها نمط عيشها وطرق تفكيرها وعاداتها اليومية سناك سوري
ولا يخرج النموذج العراقي عن هذا السياق، فمنذ مجزرة حلبجة عام 1988 خلال الحرب العراقية الإيرانية، مروراً بالثورة الشعبانية بعد حرب الخليج الثانية 1991، كان من الواضح أن صراعاً داخلياً يغلي بموازاة الحروب الخارجية، ووصل في نهاية المطاف إلى انقسام حول تقبل أو رفض الاحتلال الأمريكي عام 2003، ثم أظهر أن الانقسام، والذي رسخه الاحتلال أكثر، سيمنع الاستقرار عن البلاد حتى بعد مرور 21 عاماً على إسقاط نظام صدام حسين.
الشرخ المجتمعي
لعل الشروخ المجتمعية التي أصابت المجتمع السوري تعد واحدة من أعقد المسائل التي تحتاج وقتاً طويلاً لحلها وتجاوزها، ولن تكفي عشر سنوات لإنجاز المهمة حتى بافتراض أنه تم التوصل إلى حل وبدأ التنفيذ منذ اليوم.
إن انقسام البلاد إلى مناطق نفوذ جغرافية لا يعني فقط انقساماً عسكرياً بين الأطراف المتصارعة، بل إن الأخطر فيه هو الانقسام المجتمعي، حيث لم يعد السوريون كتلة اجتماعية واحدة بل تحولوا إلى مجتمعات متفرقة، بعقليات مختلفة بمناهج تعليم مختلفة، حتى بعملة متداولة مختلفة بعد فرض الليرة التركية على مناطق الشمال السوري.
لقد انقسمت البيئات السورية بشكل مذهل بين ثلاث مناطق نفوذ على الأقل لكل منها نمط عيشها وطرق تفكيرها وعاداتها اليومية، وعلى الرغم من أن ذلك يرتبط بشكل أو بآخر بطبيعة السلطة المسيطرة على كل منطقة إلا أنه لا يعني زوال هذه العقلية بزوال هذه القوة المسيطرة إذا ما هزمت عسكرياً، فعلى سبيل المثال لا تزال نساء في مخيم الهول يجهرن بإصرار على تأييد تنظيم “داعش” والإيمان بعودته حتى بعد هزيمته عسكرياً وإنهاء سيطرته المعلنة على مناطق جغرافية وتحوله لخلايا متخفية في الصحراء.
الكارثة الاقتصادية
تشكّل الكارثة الاقتصادية واحدة من أعقد معضلات الملف السوري، خاصة وإن عرفنا أن بعض تقديرات خسائر الحرب تصل إلى 800 مليار دولار، في وقت لا تزال فيه هذه الخسائر تمضي في ازدياد لأن الحرب لم تتوقف أصلاً لتبدأ مرحلة إحصاء خسائرها.
المشكلة الأساسية العامة التي تعاني منها مناطق السيطرة في سوريا تتمثل بحالة “الركود التضخمي” التي تحتاج مواجهتها حلولاً جذرية وجريئة وتتطلب بطبيعة الحال مثل أي حل للاقتصاد، استقراراً سياسياً وأمنياً وتوحيداً للمناطق المتفرقة سناك سوري
وعلى الرغم من اختلاف ظروف مناطق السيطرة واختلاف طرق وجهات إدارة الاقتصاد فيها، حتى أن الأمر يصل لاختلاف العملة بعد أن تم فرض الليرة التركية على أهالي الشمال السوري بذريعة الضغط على السلطة اقتصادياً من جهة وأن الليرة التركية أقوى من نظيرتها السورية، إلا أن العملة التركية وجدت نفسها في انحدار أمام الدولار لم تصل إلى مستوياته من قبل خلال قرابة ربع قرن.
رغم هذا الاختلاف فإن المشكلة الأساسية العامة التي تعاني منها مناطق السيطرة في سوريا تتمثل بحالة “الركود التضخمي” التي تحتاج مواجهتها حلولاً جذرية وجريئة وتتطلب بطبيعة الحال مثل أي حل للاقتصاد، استقراراً سياسياً وأمنياً وتوحيداً للمناطق المتفرقة والتي لا تتوفر فيها شروط قيام اقتصاد متعافٍ بشكل منفرد ومستقل عن باقي محيطها السوري.
فلا يمكن لمناطق الداخل والجنوب أن تعيش بدون نفط الجزيرة ولا قمح الشمال ولا يمكن للجزيرة أن تعيش محاصرة بين حدود معادية مع تركيا وأخرى مرفوضة مع الداخل السوري وصولاً إلى الموانئ البحرية اللازمة حكماً لأي عمليات تبادل تجاري مع الخارج، فضلاً عن أن الشمال السوري لا يمكنه البقاء على هيئة كانتون مختنق تتحكم تركيا بجرعات الأوكسجين التي تبقيه في أدنى مستويات الحياة و لكن دون أن يموت تماماً.
اللحظة التي ستشعر فيها الأطراف المتصارعة بنفاذ أو حتى شحّ هذه المكاسب بالتوازي مع زيادة الضغوط عليها بشكل يهدد بقاءها، فإنها ستصل إلى ذروة مماثلة للحظة التعب العسكري، وستذهب نحو الحل سناك سوري
ومن غير شك فإن رحلة التعافي الاقتصادي طويلة وشائكة وصعبة وتتطلب جهوداً استثنائية لا سيما في عالم اليوم الذي انتهت فيه حقبة الهبات والتبرعات من هذه الدولة أو تلك وأصبحت كل الدول تبحث عن ثمار لأي سنت تقدمه ما يلغي الصورة الطفولية الحالمة التي يحاول البعض ترويجها عن لحظة وردية ما ستنهال فيها الأموال على البلاد من كل حدب وصوب لانتشالها بأعجوبة من واقعها الاقتصادي المنهار.
نفاذ المكاسب طريق محتمل للحل
لقد مرت أربع سنوات على حالة الركود السياسي والعسكري في البلاد، وكان اتفاق سوتشي 2020 بين الروس والأتراك لحظة فارقة في تراجع النشاط العسكري شمال غرب البلاد. وسبقه اتفاق مشابه بين الطرفين لخفض التصعيد في مناطق الجزيرة السورية.
مثّلت لحظة التهدئة طويلة الأمد تلك ذروة لشعور الأطراف المتصارعة بالتعب بعد 9 سنوات من القتال الشرس، لكن التعب العسكري لا يعني بالضرورة تعباً في السياسة التي تتيح نفساً أطول، وهذا ما ظهر خلال السنوات الأربع الماضية مع قبول الأطراف بشكل أو بآخر بحالة الركود تلك، الأمر الذي لم يكن ليحدث لولا أن هناك تيارات في كل طرف لا تزال في عداد المستفيدين من إبقاء الوضع على ما هو عليه وبالتالي إطالة أمد الصراع طالما أنه لا يزال بقرة حلوباً تدر المكاسب لصالح قلة من الأشخاص على حساب ملايين السوريين.
تعب الأطراف المتصارعة
لذا فإن اللحظة التي ستشعر فيها الأطراف المتصارعة بنفاذ أو حتى شحّ هذه المكاسب بالتوازي مع زيادة الضغوط عليها بشكل يهدد بقاءها، فإنها ستصل إلى ذروة مماثلة للحظة التعب العسكري، وستذهب نحو الحل ليس من أجل إنهاء معاناة السوريين بطبيعة الحال، بل من أجل الحفاظ على وجودها أولاً وحجز موقع في المرحلة المستقبلية يضمن لها مكاسب جديدة ثانياً، ورغم أن خيار الوصول إلى جفاف البلاد من المكاسب أو شحّها إلى حد بعيد يعتبر خياراً مؤلماً وخطيراً إلا أن المشهد الحالي يوحي ألّا بديل عنه.
وقد تكون لحظة التعب تلك فرصة مناسبة لتستعيد الأطراف السورية مواقعها في أن تكون متقدمة على حلفائها الخارجيين وليست متخلفة عنهم أو منقادة لهم، الأمر الذي سيدفع اللاعبين الخارجيين إلى الاستدراك والسير باتجاه الحل ليس من أجل السوريين أيضاً بل لضمان مصالح مستقبلية في بلدٍ راهن كل طرف خارجي على خياره فيه ودفع ثمناً لذلك ولن يرضى أن يكون ذلك الثمن بدون مقابل.
لقد عاشت “سوريا” الحالية أصعب محنة في تاريخها الحديث خلال 13 سنة ودخلت في نفق لا يبدو الخروج منه سهلاً إلا بتوافر إرادة حقيقية لدى السوريين أولاً وأخيراً لتقديم تنازلات من أجل الحل وإنقاذ البلاد التي تعب أهلها من هذا العناء الطويل.