العلاقات السورية السعودية .. تاريخ من القطيعة والمصالحات يحكم مشهد الإقليم
سعوديون قاتلوا على جبهة الجولان ... ومعارك الجعفري والمعلمي صدحت في مجلس الأمن
حجز مشهد هبوط طائرة وزير الخارجية السوري “فيصل المقداد” في “جدة” مؤخراً، مكانته في اللحظات التاريخية لمسيرة من المد والجزر في العلاقات السورية السعودية.
سناك سوري _ دمشق
فبعد سنوات من القطيعة كان للحظة المصافحة بين “المقداد” ونظيره السعودي “فيصل بن فرحان” أثر وصدى يتجاوز المستوى الثنائي والإقليمي. ويرى فيه البعض نقطة بداية لتحول في مسار الأزمة السورية.
تاريخ العلاقات بين دمشق والرياض
يعود تاريخ العلاقات السورية السعودية إلى ما قبل نشوء الدولتين بشكلهما الحديث، حين كانت التجارة بوابة الترابط بين “الحجاز” و”الشام”.
وخلال النصف الأول من القرن العشرين تحوّل البلدان إلى “الجمهورية العربية السورية” و”المملكة العربية السعودية” بشكلهما الحالي. وكانت “العروبة” قاسمهما المشترك الذي لم ينقطع.
العلاقات السعودية مع رجالات الدولة السورية سبقت الاستقلال. حيث يذكر “سعيد التلاوي” في كتابه “كيف استقلت سوريا” أن الرئيس “شكري القوتلي” أجرى عام 1945 زيارة إلى “السعودية”. وحلّ ضيفاً على الملك “عبد العزيز آل سعود”، مشيراً إلى أن “القوتلي” كان مولعاً بـ”السعودية” و”مصر” ويمتلك صداقات وعلاقات عميقة فيهما.
لكن “الرياض” لن تكون راضية لاحقاً عمّا سيفعله “القوتلي”. حين سيتنازل للرئيس “جمال عبد الناصر” عن موقعه في قيادة البلاد، من أجل تحقيق الوحدة بين البلدين تحت اسم “الجمهورية العربية المتحدة”. نظراً لأن “السعودية” لم تكن تنظر باطمئنان للمشروع الناصري في المنطقة. وستكون رأس حربة في مواجهته إبان حرب “اليمن” عام 1962.
ورغم الانفصال عن “عبد الناصر” فإن العلاقات السورية السعودية لم تشهد تحسناً. حينما كان حزب “البعث” يصل إلى السلطة في آذار 1963 محمّلاً بشعارات يسارية لم تبتعد كثيراً عن النهج الناصري. وقد زادت حدة الأمور حين وصلت حركة “23 شباط” داخل حزب “البعث” إلى السلطة عام 1966. رافعة شعارات يسارية تتهم الأنظمة العربية بالرجعية والتخلف ما أدى لتوتر العلاقات السورية مع معظم دول المنطقة.
لكن التوترات مع العرب ستنحدر تباعاً وتتحسن العلاقات مع “دمشق” إثر وصول الرئيس الراحل “حافظ الأسد” إلى الحكم أواخر العام 1970.
يقول المؤرخ اللبناني “كمال ديب” في كتابه “سوريا في التاريخ”. أن الرئيس “الأسد” وبعد نجاح “حركته التصحيحية” بادر إلى إصلاح أنابيب خط “التابلاين” التي تحمل النفط السعودي عبر “سوريا”. لترد “السعودية” على ذلك بزيادة حصة “سوريا” من أرباح الترانزيت.
اقرأ أيضاً:عاجل: الوزير فيصل المقداد يصل السعودية في زيارة رسمية
تحسّن العلاقات بين البلدين سيؤتي ثماره خلال حرب “تشرين 1973”. حيث استعملت “السعودية” سلاح النفط حين أوقفت تصديره لمساندة البلدين العربيين في مواجهة “كيان الاحتلال”. فضلاً عن إرسالها مجموعة من قواتها قاتلت على جبهة “الجولان” السوري وبعضهم دفن في مقبرة الشهداء بـ”دمشق”.
مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية لم يكن الموقف السوري ملائماً لدول الخليج التي ساندت “صدام حسين” في المواجهة. إلا أن ذلك لم يسفر عن قطع العلاقات، وسيتبين للدول العربية صحة الموقف السوري بعد 8 سنوات حين انتهت المواجهة بين “طهران” و”بغداد” دون نتيجة سوى إنهاك البلدين.
وفي عام 1991 توافقت “الرياض” و”دمشق” على الموقف من “صدام حسين”. وشاركت “سوريا” في التحالف الدولي الذي تشكّل لإخراج الجيش العراقي من “الكويت”.
لبنان .. كلمة سر العلاقات السورية السعودية
نقطة التحول الأهم كانت صياغة التوافق بين الأطراف اللبنانية المتصارعة في حرب أهلية على مدى 15 سنة. فتم التوصل لاتفاق “الطائف” الذي أنهى الحرب اللبنانية، وما كان ذلك ليتم لولا التوافق السوري السعودي.
ومثلما كان الموقف من “صدام حسين” بوابة لتحسّن العلاقات السورية السعودية مطلع التسعينيات. فإن الموقف من مواجهته سيكون بوابة خلاف. حيث أعلنت “سوريا” صراحةً موقفها الرافض للغزو الأمريكي للعراق عام 2003. بينما وقفت “السعودية” إلى جانب الخيار الأمريكي وكانت أراضيها منطلقاً للهجوم البري على “العراق”.
أما الملف اللبناني الذي بقي لسنين طويلة كلمة السر في العلاقة بين “سوريا” و”السعودية”. فسيكون سبباً في تعزيز العلاقات بين البلدين تارةً وتوتّرها تارة أخرى. فقد هزّ انفجار ضخم العاصمة اللبنانية “بيروت” في 14 شباط 2005 أودى بحياة رئيس الحكومة اللبنانية “رفيق الحريري”.
لن يهدأ التوتر في علاقات البلدين فعلياً حتى تشرين الأول 2009 حين أجرى الملك “عبد الله بن عبد العزيز” أول زيارة له إلى “دمشق” منذ توليه الحكم قبلها بـ4 سنوات. والتقى حينها الرئيس “الأسد” لبحث قضايا المنطقة وفي مقدمتها الوضع في “لبنان”.
اقرأ أيضاً:أنباء عن توجّه السعودية لدعوة الرئيس الأسد إلى القمة العربية
المساعي السعودية أدت أيضاً إلى المصالحة بين “سوريا” ورئيس الحكومة اللبنانية “سعد الحريري” الذي زار دمشق للمرة الأولى في كانون الأول 2009. بعد أن كان قد اتهم السلطات السورية بالمسؤولية عن اغتيال والده.
وفي تموز 2010 ترافق الرئيس “الأسد” والملك “عبد الله” في رحلة مشتركة إلى “بيروت” مع تصاعد التوتر في “لبنان” على خلفية الحديث عن قرب إصدار المحكمة الدولية قرارها الظني الذي اتهمت فيه أعضاءً من “حزب الله” بالمسؤولية عن اغتيال “الحريري”.
وقد شكّلت تلك الزيارة إرساءً لما عرف لاحقاً بتوافق “السين-سين” الذي يهدف لتهدئة الأجواء بين قوى 8 آذار المدعومة من “سوريا” وقوى 14 آذار المدعومة سعودياً.
سنوات القطيعة
في آذار 2011 اندلعت الأزمة السورية، وتغيّرت معها المواقف والمسارات. وكان الموقف السعودي واضحاً منذ البداية بالجنوح نحو دعم المعارضة في وجه السلطة.
حيث أصدر الملك “عبد الله” في آب 2011 بياناً أدان فيه «العنف الذي تمارسه السلطة في سوريا» على حد تعبيره. وأمر باستدعاء السفير السعودي في “دمشق” للتشاور في خطوة كانت بوابة لمرحلة سحب السفراء. كما أن “السعودية” كانت من أوائل الدول الداعمة لتجميد عضوية “سوريا” في الجامعة العربية.
دعمت “الرياض” المعارضة السورية بشقّيها السياسي والعسكري. ووضعت ثقلها المادي والمعنوي بهدف “إسقاط السلطة” في “سوريا” لكن هذا الهدف فشل عاماً بعد آخر من سنوات الحرب في التحقق. فتراجع الدعم السعودي للمعارضة شيئاً فشيئاً لكن وفي الوقت ذاته دون اتخاذ أية خطوة للتقارب مع الحكومة السورية.
وضمن سياستها التي اتخذت موقفاً منحازاً بوضوح إلى جانب المعارضة. قرّرت “الرياض” منح ملف الحج إلى “لجنة الحج العليا” التابعة لـ”الائتلاف المعارض”. وسحبت بذلك صلاحية تنسيق رحلات الحجاج السوريين من وزارة الأوقاف في الحكومة السورية.
خلال العام 2017 قال وزير النقل السوري حينها “علي حمود” أن هناك طائرتان سوريتان كانتا قيد الإصلاح على الأراضي السعودية، حيث قامت السلطات باحتجازهما. مضيفاً أن الوزارة أجرت المراسلات اللازمة لاستعادة الطائرتين ولكن دون جدوى، وهو الأمر الذي لم يتغير حتى اليوم.
بداية العودة للتقارب
ومع عودة العلاقات السورية الإماراتية عام 2018. تزايد الحديث عن إمكانية عودة العلاقات السورية السعودية، وأن هناك تحضيرات لافتتاح السفارة السعودية في “دمشق” مجدداً. لكن ذلك لم يجد مفاعيله على الأرض آنذاك.
أما أكثر الخطوات الملفتة فكانت عام 2021 حين شارك وزير السياحة السوري “محمد رامي مرتيني”. في اجتماع للجنة منظمة السياحة العالمية للشرق الأوسط الذي استضافته “السعودية” وكانت تلك أول زيارة لوفد سوري رسمي إلى المملكة منذ 10 سنوات.
اقرأ أيضاً:الرئيس الأسد: السياسة السعودية تجاه سوريا اختلفت منذ سنوات
الأعوام الأربعة الماضية شهدت تصاعداً تدريجياً في وتيرة الحديث عن عودة العلاقات بين البلدين. مع أنباء عن لقاءات أمنية مشتركة ومساعٍ لإنهاء الخلاف. في وقتٍ كانت فيه الوجوه تتغيّر في “الرياض”، فقد رحل الملك “عبد الله” وجاء زمن ولي العهد “محمد بن سلمان”. رحل وزير الخارجية “سعود الفيصل” وبعده “عادل الجبير” وحلّ “بن فرحان” في الصورة.
غادر المندوب السعودي “عبد الله المعلمي” والسوري “بشار الجعفري” موقعيهما كممثلين لبلديهما في مجلس الأمن. وانتهت معهما حقبة المعارك الكلامية في الجلسات الرسمية. بما فيها من تراشق للاتهامات والاستشهاد بأبيات الشعر.
المشهد الذي تغيّر ملياً أوصل للحظة وصول “المقداد” إلى “جدة”. فيما ستكون الفترة المقبلة مهلة لاختبار مستوى التقارب بين الجانبين. لا سيما أن ملفات مثل الطائرات السورية المحتجزة وملف الحج ستكون أساسية في قراءة مؤشرات المرحلة القادمة في العلاقات الثنائية.
أما على الجانب السعودي. فيحضر ملف تهريب المخدرات باتجاه الخليج، وما يحكى عن دور “سوريا” كمصدرٍ أو ممر لتلك الشحنات. الأمر الذي ورد في البيان السوري السعودي المشترك في ختام زيارة “المقداد” بأنه تأكيد سعودي على أهمية قيام مؤسسات الدولة السورية في ضبط ملف تهريب المخدرات.
التاريخ الحافل في مسار العلاقات بين “دمشق” و”الرياض” يوضح مدى انعكاس طبيعة العلاقة بينهما على أوضاع المنطقة ككل. نظراً للدور الذي تتمتع فيه كل منهما بطبيعة موقعها الجغرافي ووزنها السياسي وعلاقاتها على مستوى الإقليم والعالم. فيما يبقى للأيام المقبلة أن تظهر نتائج عودة العلاقات وانعكاساتها على البلدين ومدى ذهابهما بعيداً في إعادتها إلى ما كانت عليه قبل القطيعة.
يذكر أن وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان يصل اليوم الثلاثاء 18 نيسان 2023 إلى دمشق في زيارة هي الأولى من نوعها منذ أكثر من عقد.