اللامركزية طريق لتحقيق التعافي وبناء السلام – أنس جودة
اللامركزية هي الطريق اليوم لإعادة شمل السوريين وتحقيق المصالحة الوطنية
تنطلق بعد أيام دورة جديدة لانتخابات الإدارة المحلية هي الثالثة بعد اندلاع الحرب والثانية بعد فترة الهدوء النسبي وانتهاء مرحلة العمليات العسكرية المنتشرة.
سناك سوري – أنس جودة
وإذا أردنا وضع عناوين لانتخابات الإدارة المحلية في هذا العقد المنصرم فإن عنوان الأولى التي جرت في نهاية العام 2011 سيكون “التجربة الجديدة” كونها جاءت بعد صدور مرسوم الإدارة المحلية 107 الذي طرح لأول مرة منطق اللامركزية الإدارية معطياً صلاحياتٍ واسعةً للمجالس المحلية في وضع الخطط التنموية وتنفيذها، ووضعها جميعاً على قدر المساواة في الصلاحيات، وفتح مجالات جديدة للمشاركة المجتمعية عبر اللجان المحلية والمراكز المجتمعية وغيرها من الهياكل التي تسمح للمواطنين بالمشاركة الفاعلة في كل مسارات صنع القرار المحلي.
طبعاً لم يكتب لهذه التجربة النجاح أبداً نظراً لتداعيات الحرب التي ضربت المحليات بشكل رئيسي، ولكن العامل الأهم لعدم نجاح التجربة كان عدم قناعة أغلب العاملين في الشأن المحلي انطلاقاً من الوزارة إلى المحافظات فالمجالس، بفعالية اللامركزية الإدارية وقدرتها على تحقيق التنمية والمشاركة، حتى أن جزءاً كبيراً منهم مازال إلى اليوم يرغب بالعودة لقانون مركزي يستطيع تحريك عطالة المجالس الناتجة في رأيهم عن عدم قدرة المركز على إصدار القرار لعدم الصلاحية من جهة، وعدم قدرة المحليات على السير بالعملية التنموية من جهة أخرى نظراً لضعف الإمكانيات والقدرات والمعرفة.
ونظراً لظروف الحرب فقد تم تمديد عمل المجالس لثلاث سنوات حتى العام 2018 حيث جرت دورة جديدة للانتخابات يمكن أن نعنونها بـ “عودة المؤسسات” فالتحدي الرئيسي في العام 2018 كان عودة انتظام العملية الانتخابية والمؤسسات في إشارة لعودة الدولة وبسط وجودها وانتظام عملها على أوسع رقعة جغرافية ممكنة.
ولأن التحدي كان مؤسساتياً وليس مجتمعياً فقد غابت أي مساحة ممكنة للمشاركة المجتمعية الواسعة في ظل القوائم المغلقة والتي لم يعلن عنها إلا قبل عدة أيام من الانتخابات، فطغى هذا الواقع على أغلب المجالس التي عانت من عطالةٍ شديدةٍ وقصورٍ في تحقيق التنمية بسبب الاختيار من نفس السلة القديمة واغلاق الأبواب على المشاركات الجديدة، وظروف العقوبات والحصار التي أدت لقلة الموارد وهجرة قسم كبير من الشباب والأيدي العاملة في كل المناطق.
وأيضا وقبل كل شيء عدم وجود الوعي والقدرات الكافية عند أعضاء المجالس بممكنات التنمية المحلية والمساحات الكبيرة التي يمكنهم العمل من ضمنها بعيداً عن مجرد تقديم الخدمات البلدية (الغائبة في أكثر المناطق)، وبطريقة مختلفة عن التفكير العقيم السائد باعتبار إصدار المخططات التنظيمية المورد الأساسي للدخل، وما يتبع ذلك من غبن وشبهات فساد أدت لصدور مراسيم بحل العديد من المجالس وإعادة تشكيلها. وبهذا يمكن القول إن عنوان التجربة الثانية بامتياز هو “العطالة” التي حافظت من جهة على شكل المؤسسات ووجودها ولكنها بالمقابل ألغت كل إمكانية للتطوير والانتقال نحو التنمية.
اقرأ أيضاً: سوريا وتاريخ من اللامركزية .. دولة مدنية وإدارات محلية
يلقي الواقع الذي نعيشه اليوم بظلالٍ قاتمةٍ على المشهد العام، فالعقوبات والحصار، واستمرار الاحتلالات التي تسلب جزءا كبيراً من مقدرات الدولة، وضعف الإمكانيات المادية والمعرفية، وعدم قدرة الحكومة المركزية على المضي في نفس المنطق الرعائي الذي ساد لعقود طويلة، ناهيك عن الفساد المستشري وعدم وجود خططٍ واضحةٍ وجديةٍ لإدارة العملية التنموية، وتغييب منطق المصالحة الوطنية والمشاركة المجتمعية، والتدهور الأمني في العديد من المناطق، تشكل كلها شبكة من المعيقات القاتلة لأي تفكير أو جهد يمكن أن يساعد ولو قليلاً في خروج البلاد من دوامة العطالة المؤدية للاضمحلال والتفتت.
من هنا يقتضي الواقع والضرورة أن يكون عنوان الانتخابات القادمة ” تحقيق التعافي” وأن يكون عنوان المرحلة القادمة هو اللامركزية سبيلا لتحقيق هذا التعافي المحمول على روافع المشاركة المجتمعية، والتشاركية، والمصالحة الوطنية، ولا يتحقق هذا الأمر بمجرد الأمنيات أو باجتماعات شكلية ومهرجانات خطابية، ولا بتكرار المصطلحات على الإعلام بدون تحقيق مضمونها، فطريق اللامركزية التنموية لابد أن يمر بعدة محطات أولية يمكن أن نعدد منها:
1- إقرار الخطة الوطنية للامركزية الإدارية التي تقتضي نقل صلاحيات الوزارات الخدمية للمحافظات ومجالس المدن، وأن تكون هذه الخطة هي المعيار الذي توضع على أساسه خطة الإصلاح الإداري وليس العكس، فكل جهود الإصلاح الإداري التي تم بذلها في السنوات السابقة يجب إعادة النظر فيها بناء على توزيع الصلاحيات ونقلها للمحليات.
2- إصلاح الخلل الأساسي في القانون المتعلق بصلاحيات المحافظ ورئيس مجلس المحافظة ورئاسة المكتب التنفيذي، الذي أدى إلى أن يملك نائب رئيس المجلس صلاحيات أكبر من الرئيس نتيجة تعديل القانون قبل صدوره لصالح المحافظ المعين بدلاً من رئيس المجلس المنتخب.
وليس المطلوب إصلاح الخلل شكلياً، بل لابد من وقفة معمقة عند ما هو المستوى الذي نريده ونحتاجه فعلا للامركزية، وبناء عليه تتم إعادة صياغة القانون بطريقةٍ موضوعيةٍ تأخذ بعين الاعتبار توسيع المساحات للأعضاء المنتخبين والأخذ بعين الاعتبار للهواجس الأمنية والتنظيمية.
3- لا يمكن الانطلاق نحو اللامركزية بدون إقرار الإطار الوطني للتخطيط الإقليمي الذي يشكل مرحلة الانتقال بين المركزية الشديدة واللامركزية الإدارية الموسعة وجسر الضمان لبقاء تخطيط مركزي إشرافي إطاري للتنمية المحلية التي لا تقتصر على الاعمار والتشييد بل إطاراً تخطيطاً مكانياً وبشرياً وتنموياً يقرأ الموارد المتاحة ويعزز من إمكانية إدارة المشاريع المشتركة بين الوحدات الإدارية اعتماداً على وضع أقاليم تنموية عابرة للتقسيم الإداري للمحافظات وقائمة على أساس المقومات التنموية للإقليم ذاته مثل سهل الغاب، سهل عكار، وادي النصارى، القلمون، الغوطة الشرقية… وغيرها.
ويقتضي هذا الأمر حكماً إعادة النظر بتبعية هيئة التخطيط الإقليمي لوزارة الإسكان، والدور المطلوب منها كطرف أساسي في المجلس الأعلى للإدارة المحلية.
4- خطة تمكين وبناء قدرات وطنية واسعة للكوادر الإدارية وللأعضاء المنتخبين، تتجاوز التدريبات المجهرية التي قامت بها بعض الجهات الحكومية بدعم من المنظمات الدولية، وهنا لابد من الاستعانة بجهود المجتمع المدني المحلي والوطني وإقرار برامج تدريب المدربين في قانون الإدارة المحلية، والموازنات المستقلة، ومفاهيم التنمية المحلية وقراءة الموارد، والمشاركة المجتمعية، وعقود التشاركية مع القطاع الخاص.
5- تطوير مفهوم التشاركية مع القطاع الخاص وإقرار أدلة وعقود نموذجية لعدد من التعاقدات مثل مراكز خدمة المواطن وإدارة النفايات ومحطات توليد الطاقة وغيرها من أشكال التعاقد على المستوى المحلي، وتفعيل دور مؤسسات التمويل المتوسط والصغير في هذا الإطار.
6- إطلاق الطاقات المجتمعية في المشاركة بصنع القرار المحلي عبر وضع تصورات واضحة وتعليمات تنفيذية لكل أشكال المشاركة المجتمعية في القانون والتي ليس من المعروف كيفية تشكيلها ومن المسؤول عنها مثل المراصد الحضرية ولجان التنمية المحلية واللجان التطوعية والمراكز المجتمعية، حيث تم تشكيل بعضها في الفترة الماضية ولكن بأشكال وصيغ مختلفة يحمل بعضها حكما عيب عدم الاختصاص، وهنا يمكن الاستفادة من التجارب التي قامت بها بعض المجموعات المدنية والمنظمات الدولية في التخطيط التشاركي والدفع باتجاه تشكيل اللجان المحلية والتطوعية.
7- من الأشكال السابقة من الضرورة إيلاء عناية قصوى لمراكز الرصد الحضرية، ففي ظل انعدام مراكز الدراسات، وضعف عمل مركز الإحصاء، وعدم وجود قواعد بيانات تنموية خصوصاً بعد الحرب، فإن مراكز الرصد الحضري هي الوسيلة الأساسية لجمع البيانات ومتابعة الواقع الاجتماعي في المناطق المختلفة ورصد كل التوجهات والانماط والسلوكيات المحلية وحتى مراقبة الانتخابات وتوثيقها.
ليست اللامركزية اليوم ترفاً إدارياً ولا مهرباً من النفقات والدعم الحكومي، وهي ليست قطعاً موضةً إعلاميةً يتم تداولها عند الانتخابات وينتهي الحديث عنها بعد ذلك، بل هي علاج لسياسات مركزية كانت السبب الأول في انعدام التنمية في العديد من المناطق والجذر الرئيسي للواقع الذي نعيشه، وليس بصدفةٍ أن تكون خريطة الاحتلالات لسوريا اليوم متطابقة مع الخرائط التنموية قبل العام 2011، فالمناطق الأقل تنمية والأبعد عن المشاركة في صنع قرارها المحلي والاستفادة من عوائد التنمية هي المناطق ذاتها التي شهدت أعنف المجابهات والتي مازال بعضها مستمراً لحد اليوم.
اللامركزية هي الطريق اليوم لتحقيق التعافي وإعادة شمل السوريين وتحقيق المصالحة الوطنية القائمة على تحقيق مصالح المجتمعات المحلية وجعلها شريكاً في صنع القرارات التي تؤثر على حياتها وتكفل استفادتها من عوائد التنمية في مناطقها، وهي الوسيلة لصنع نموذج حكم وحياة جاذب لبقية السوريين داخل سوريا وخارجها، ليكونوا شركاء حقيقين في بنائه وتحقيقه.
اقرأ أيضاً انتخابات الإدارة المحلية المقبلة.. هل تحمل أمل التغيير؟