في مواجهة جرائم الثأر… عائلات ضحايا تنحاز لتطبيق القانون
محاولة لبناء سلم أهلي بالتعاون مع الدولة في السويداء
أمضى “أيمن الحناوي” ساعات ينتظر عودة ابنه المختطف “كرم”، في حين انتظر “مثقال نوفل” 30 ساعة، حاور خلالها بشكل متقطع خارجاً عن القانون، عسى أن يمنحه معلومة عن مصير ابنه “يوسف”، وانتهى الأمر في الحالتين بموت الابن، علماً أن هناك آباء وأمهات كثر في “السويداء”، دارت الأيام على قلوبهم وطحنتها حزناً على فراق الأبناء، بظل غياب سلطة القانون، وانتشار عصابات الخطف والقتل والسرقة، والتي قرر غالبية الأهالي مواجهتها بالقانون ونبذ العنف، انطلاقاً من فكرة أن العنف لن يولد سوى المزيد منه.
سناك سوري-رهان حبيب
الحادثتان السابق ذكرهما، حالتان من حالات عديدة مشابهة عاشتها “السويداء” خلال السنوات الماضية، نتيجة الفلتان الأمني، والأخطر وفق ما يقول الأهالي، أن بعض تلك الحوادث تسجل ضد مجهول، والبعض الآخر ساعد الأهالي الجهات المختصة للتوصل إلى الجناة، بينما بقيت العصابات تحاول طمس الدلائل وترهب الأهالي، وعند دخول تلك العصابات في مواجهة مع الجهات المعنية، كانت تتخذ التحقيقات منحى بطيئاً، أدى لتأخير حصول الضحايا وذويهم على حقوقهم.
وسط كل ذلك، ظهرت بقعة مضيئة في مجرى تلك الأحداث تمثلت بإعلان بعض أهالي الضحايا عن تمسكهم بسيادة القانون ورفع الصوت ضد الجريمة، ورفض مبدأ الثأر والتمسك بالعدالة لتأخذ مجراها الطبيعي من خلال القانون.
يقول “أيمن الحناوي” وهو أردني الجنسية، والد “كرم” الذي اكتشفت جريمة قتله قبل نحو عام ونصف: «في كل متابعة لخيط جديد من خيوط الجريمة كانت تصيبني الدهشة مما نعيشه، وممن تقاطعت أسماؤهم في الجريمة، فمثلاً تواصل معي أشخاص كشفت الحقائق أن لهم يد بالجريمة وكذلك التحقيقات، لذا تمسكت بحق ابني وحقي وحق المجتمع لنصل للقتلة كي ينالوا الجزاء العادل. وفقاً لما ينص عليه القانون».
اقرأ أيضاً: السويداء…. عائلة تتراجع عن شريعة الغاب وتسلم متهم بالقتل للدولة
اختار “أيمن الحناوي” الاستقرار في “السويداء” للعمل وبناء مشروع استثماري، ولاحقاً وجد نفسه أمام جثة ابنه الشاب الذي امتهن الفن وترك أثراً طيباً لدى كل من تعامل معه، يدرك “أيمن” أنه لو أراد التحرك باتجاه عشائري ومواجهة العنف بالعنف كان سيظلم شباب غير ابنه أو قد تصل الأمور لجرائم جديدة، ويضيف لـ”سناك سوري”: «اتجهت للقضاء وقررت أن لا أسيء للمجتمع، وبالفعل نالت القضية اهتماما كبيراً وكانت التحقيقات دقيقة. لكن ما أتعبني وأسرتي، إلى جانب الحزن، هو الوقت الطويل للمحاكمات والذي أتاح لقاتل ابني، الذي عرفته جيداً، أن يعيش حراً طليقاً، هو ومن عاونه».
تم تحويل ملف دعوى قتل الشاب “كرم”، إلى محكمة الجنايات العسكرية في “دمشق”، لأن الادعاء ضد شباب فارين من الخدمة العسكرية، يقول “الحناوي” ويضيف، أنه يدرك بأن الحكم لن يعيد إليه ابنه، ولن يعوض خسارته وفقدانه، ويتابع: «لازالت متمسكا بالقانون وسيادته كي لا نخسر شباباً غير “كرم”، وبقيت في سوريا ولن أتركها».
محاورة القاتل
في أحد ليالي كانون الأول الفائت، وقبل أن يغادر المهندس “مثقال نوفل” منزله، طلب من ابنه “يوسف” ألا يغادر المنزل، لكنه عندما عاد لم يجده، حيث خرج الشاب ليكمل بيع سيارته، وطالت ساعات غيابه دون أي معلومات، حتى ورد اتصال إلى الأب يخبره بأن ابنه مختطف.
يقول “نوفل” لـ”سناك سوري”، إن المتصل ظلّ “يتسلى” بأعصابه وأعصاب أصدقاء ابنه، لأكثر من 30 ساعة، قبل أن يخبرهم بموت “يوسف” على يد 3 أشخاص كان المتصل أحدهم، امتص الوالد الصدمة وحرص على استمرار محاورة الجاني واستدراجه، علّه يتمكن من معرفة معلومة ما يستطيع إنقاذ ابنه من خلالها لكن للأسف كان “يوسف” قد توفي بالفعل.
حزم الوالد الملكوم أمره، وقرر أن يحصل حق ابنه، فقدم دعوى ضد الجناة، وتحدث في التحقيقات عن كل ما جرى معه بالتفاصيل، ورفض أن يطلب إلى عائلته القيام بأخذ ثأر ابنه، ويضيف: «خسارتي كبيرة وابني بشهادة كل من عرفه شاب مهذب عمل لصالح مجتمعه وخدمته، لذا وإكراما لروحه لن يكون مقتله شرارة لجرائم جديدة، إذا كان “الزعران” يتكئون على عنفهم وسلاحهم وعلى سلطتهم، فلا بد من مواجهتهم بالقانون بفعل سلمي، علنا نقتص من الجناة، فكل شاب في بلدي مثل “يوسف”، واستمرار العنف يعرضنا جميعا لكوارث».
يؤمن “نوفل” بأن الوقت لم يفت بعد لوضع حد للعنف، ويقول إن المحاكمات سارت بسرعة جيدة، بعد أن ساعد بتسليم الجاني وكافة المعلومات التي حصل عليها للقضاء، ويؤكد أنه يمتلك ثقة كبيرة بأن العدل سيأخذ مجراه، ويضيف: «لم أندم على قرار اللجوء للقانون، والقضية حولت للنقض ومن بعدها للجنايات وبانتظار الحكم الذي لن يعيد ابني، لكن هناك غيره من الشباب يجب أن نحافظ عليهم، ونرى عقاب الجناة لردع الأهل ومن أهمل بتربية ابن».
اقرأ أيضاً: عاجل اعتصام أمام القصر العدلي بالسويداء.. والنائب العام يتحدث للمحتجين
المجتمع لم يصمت
قبل عام وشهرين، قام رفاق “كرم الحناوي” بإضاءة الشموع ونفذوا مسار في المدينة لرفض هذا الواقع والحياة تحت مقصلة الجريمة، وعبر الأهالي عن رفضهم لواقع خسارة الشباب وكان مصاب الأم والأب حدثاً كبيرا تضامن معه الغالبية، وعبروا عنه عبر شبكات التواصل وبتواصل شخصي في جنازته ومواقف العزاء.
وفي شهر كانون الثاني 2022 اعتصم أكثر من مائتي شخص في الصباح التالي لنشر خبر جريمة قتل “يوسف نوفل”، أمام القصر العدلي، وطلبوا لقاء النائب العام ووضع حد للقتلة، وكان وعدا قاطعا من النائب العام في السويداء بأن العدالة ستأخذ مجراها، وتابع الجمع إلى منزل “نوفل” معلنين التضامن، ورفض المجتمع للجريمة بكل تفاصيلها واستمرت المحاكمات.
ترافق رفض المجتمع لجريمة قتل “كرم” مع مبادرة “لأجل الهيب”، الحملة زارت عدد من أهالي الضحايا في المحافظة، الذين فقدوا أبناءهم على أيدي العصابات، فضلاً عن لقاءات عديدة جرت مع الوجهاء الاجتماعيين ورجال الدين في المحافظة لحشد الرأي العام ضد عصابات الخطف والمطالبة بتعزيز دور القانون ومحاسبة مرتكبي الجرائم.
القاتل أيضا ضحية!
من وجهة نظر “رواد بلان ” صحفي وناشط بالشأن العام، فإن مشكلة العدالة وسيادة القانون مسألة متداخلة ومثقلة بأزمات قديمة تفاقمت عقب أحداث عام ٢٠١١، جراء استغراق القضاء وقتا طويلا في فصل القضايا التي ينظر بها، إضافة إلى إشكالية التنفيذ، وخاصة أن المجتمع لديه تصور سلبي عن القضاء وسمعته وآليات التقاضي، لذلك يلجأ كثير من المواطنين إلى القضاء البديل القائم على الاعراف والتقاليد، وهي غالبا ذات إجراءات أسرع وتعطي موثوقية وحلول مقبولة من جميع الأطراف، حتى وإن لم تحقق العدالة المرضية.
وبرأيه ما يحصل اليوم في السويداء هو وجود كتلة كبيرة متمسكة بالقانون الذي يحمي المواطنين من الجريمة والسلب والمخدرات، وطرف منتفع يحاول أخذ الوضع الأمني إلى مكان آخر، وإشكالية أعمق وهي هل هذا المجتمع يحترم هذا القانون ويراه معبراً عن إرادته أم العكس، إضافة إلى سؤال يطرحه الوضع الحالي: هل أفراد المجتمع لديهم الوعي الكافي لمعرفة الحقوق والواجبات؟.
وعن موقف أهالي الضحايا يرى “بلان” أن موقفهم «يعتبر مثلاً يضرب في القضايا المشابهة لنبذ العنف والتمسك بالقانون، لكن إلى اليوم لم تكن هذه النماذج مثالا ايجابيا، لأن النتائج لم تظهر بعد، فغالبية المجتمع يعتقد أن القاتل يجب أن يقتل ولا يحاولون إدراك أن القاتل غالباً هو ضحية بشكل ما لمجتمعنا والظروف التي أوصلته إلى هنا، هذا ما قد يدركه القضاء فيخفف الحكم، الأمر الذي يعتبره كثر أنه تسويف للعدل».
يعتقد “بلان” أن أصل المشكلة هو غياب الوعي والثقافة بالجانب المجتمعي والقانوني والنفسي، فالمجتمع العنفي اليوم يمارس عنف جماعي على أحد أفراده الذي ارتفعت لديه عتبة العنف إلى درجة القتل مثلا.
اقرأ أيضاً: بعد اختطافه.. فصيل مسلح يسلم شاباً للجهات المختصة بالسويداء
القانون ملح الأرض
يرى المدرس المتقاعد والناشط الأهلي، “سليمان الكفري”، أن القانون ملح الأرض، وبظل غيابه تنتشر الفوضى وينتشر العداء وتغتصب الناس بعضها البعض، وعبر الزمان كان الرادع الأخلاقي والديني والاجتماعي والأعراف والتقاليد تفعل فعلها في كل زمان، لكن مع تغير الحياة المدنية لا بديل عن العمل من أجل سيادة القانون وتطبيقه تطبيقاً خلاقاً من دون الاعتداء على الناس كون الجريمة هي خنجر يدمي المجتمع ويدمي قوب الضحايا، والعمل لسيادة القانون وعقاب الجاني بالعقاب العادل مسؤولية الدولة وتمسك الأهالي به دليل بأنهم لا يريدون الانتقام بعقلية الثأر ومعاقبة الجناة، وهذا من مهام أجهزة الدولة ومعاقبة كل من يمس بأرواح الضحايا.
ويضيف: «تطبيق القانون بشكل متوازن يخلق حالة تصالح مع النفس وبغيابه أو تغييبه نكون قد قتلنا مرتين: الأولى فعل القتل الذي أدى لخسارة الإنسان ومرة أخرى قتلنا ذويهم وفي المثالين الأخيرين ثبت الأهالي حالة وعي وعقلية إنسانية والمحبة، وأن القانون يجب أن يأخذ مجراه».
لايجوز أن نكون القاضي والجلاد معاً
وفق الشيخ “حمد قطيش”، وهو رجل دين يعمل بالشأن الاجتماعي، فإنه لا يحق لأحد أن يهدر دم أحد، ولا يستطيع عاقل أن يتحمل حمل الدم مهما كان يملك من مقومات مادية أو جسدية والأخذ بالثأر دوامة لا نستطيع الخروج منها ان دخلناها، ولن نستطيع تحمل نتائجها و خسارتها. فهي حتماً دون فائدة ترجى.
يضيف: «القتل مصيبة على أهل القاتل أعظم من أهل المقتول، فإن الاتجاه للقضاء وكف الشر مكسب، وهو قمة الشجاعة ويقال(نام على غيظ ولا تصبح على ندم) وعلى القضاء القيام بواجبه بسرعة عند حدوث جرائم القتل، ولنكن له مساندين. كما يجب عدم تشجيع الحل العشائري منعاً من حدوث ردات فعل مستقبلية، لأنه في أغلب الأحيان يكون الحل العشائري غير مقبول، ولا ينظر لأبعاد القضايا على المدى البعيد كحقوق الأولاد إن وجدوا، والميل نحو أحد الأطراف دون الآخر، وكل من اختار السلام فقد أسس نواة سلام في المجتمع يبنى عليها».
نتيجة
الأحكام في قضيتي مقتل “نوفل” و”الحناوي”، لم تصدر بعد واطلع سناك سوري على وثائق القرارات المرتقبة، لكن يمنع نشرها من دون وجود موافقات رسمية، إلا أن تلك الإجراءات القضائية أرضت عائلة “نوفل” وعائلة “الحناوي”، وبانتظار الإسراع بالإجراءات المطلوبة لوضع حد لهذه الجرائم بشكل جدي، وبما يقدم للمجتمع دليلاً على سيادة القانون ويعزز الثقة بين المواطن والجهات القضائية.
لكن ما نحتاجه ثقافة أوسع تمنع انسياق المجتمع لتطبيق ما يعتبره القصاص من دون تدخل القضاء، كما تم في حالات سابقة عندما وضع المجتمع أحكام ونفذها في حالات أثارت الرأي العام.
اقرأ أيضاً: “السويداء”.. اعتصام لمحامي المدينة انتقدوا فيه “تراخي الأجهزة الأمنية”