تنشيط الحس الفني.. الذئب والعنزات الثلاث
الفتاة المستذئبة... القصاصة التي أرعبت المدير
في العام 1998 كنت في الإعدادية، في مدرسة نائية على أطراف الريف، فتم في ذاك العام على نحو نادر الحدوث افتتاح مكتبة صغيرة في تلك المدرسة والتي اعتُبرتْ بادرة لطيفة من قبل الإدارة وقتئذ، وعليه وَضعتْ إدارة المدرسة خطة لتنشيط الحس الفني والأدبي بين الطلاب لاكتشاف مواهبهم.
سناك سوري – شاهر جوهر
سارعت معلمة اللغة العربية اللطيفة والأنيقة على الدوام بالطلب من أربعة طلاب – كنت أنا أحدهم – بتمثيل مسرحي حيّ لقصة الذئب والمعزات الثلاث الشهيرة، وهي إحدى روائع الأدب العالمي. أعجبتني الفكرة، فلدي تجربة سابقة في التمثيل المدرسي حين لعبتُ دور سكّير شكسبير في “تاجر البندقية” في الصف الفائت. لهذا وقفنا أربعتنا بالتساوي أمام المعلمة لتوزع الأدوار بيننا، وددت حينها في سري أن ألعب دور الثعلب الماكر، أعتقد أني أجيد أدوار الشر، أو دور المعزاة الذكية التي تكيد لذاك الثعلب بذكاء نهاية الحكاية، لأن من يجيد أدوار الشر بإمكانه أن يضع حداً لها، لكنها بدل ذلك أسندت لي مهمة تلك المعزاة الهزيلة والبائسة ذات الضرع الناشف التي يتم التهامها مع بداية الحكاية. في حين أنها منحت دور الثعلب لطالبة جديدة في صفنا جاءت هي وعائلتها من أقصى الريف إلى قريتنا منذ وقت قريب. توقفت المعلمة أمامها، لحستها بعيناها البنيتان تتفحص حالها، ثم قالت بتهكم: “أنتِ هو الثعلب، سترتك الطويلة المهترئة ووجهك الجامد والحاد وبشرتك السمراء يقولان لي أنكِ ستكونين ثعلباً ماكراً جداً”.موقع سناك سوري.
ضحكنا جميعاً، لكن تلك الفتاة لم تتفوه بحرف، تسمّرت عيناها على ناظريّ المعلمة وانصرفت إلى مقعدها بانزعاج.
اقرأ أيضاً: أنا شاب ثلاثيني عاجز – شاهر جوهر
طوال اليومين التاليين وأنا أتدرب على ذاك المشهد الحزين، كيف آكل العشب بكسل في الحقل، من ثم أزحف هارباً من بيتي المصنوع من القش من ذاك الثعلب المتنكر بصوت معزاة ولا ألقي لتحذيرات إخوتيَّ أي بال لمكره، ليجدل ذاك الماكر عنقي بسرعة وبخفة ويطحن حنجرتي كما يطحن الدب رأس عصفور، بعدها أصرخ غارقاً في دمي: “آ-آ-ه، لقد خدعتني أيها الثعلب، آ-آ-ه ليتني سمعت النصيحة” قبل أن أسقط ميتاً ومأكولاً.
التهمتني تلك الفتاة المستذئبة ثم إنهالت تلكمني على رأسي بكلتا يديها بحقد دفين بعدة ضربات موجعة هي خارج إطار السيناريو أصلاً، استنجدت بنظراتي من المعلمة طالباً منها العون والمدد من قبضة تلك الفتاة، فأشارت لي المعلمة بيدها كشخص عاش دور الإخراج أن أكمل المشهد الدرامي، وكأنها تقول لي أنه لا مانع من الارتجال.موقع سناك سوري.
انتهت المسرحية على خير، وصفّق الجميع لتلك الفتاة، وقامت المعلمة بتكريمها واحتضانها، ثم سحبت دبوساً من مؤخرة شعرها المعقوص تحت شالها الزيتوني ثم منحته لها كهدية.
أما أنا لم يصفق لي أحد، ولم يمنحني أحد دبوساً، لربما لأنه غالباً ما تعتبر أدوار البسطاء والتعساء المُلتَهَمين في بلادنا بغير ذات قيمة أو نفع، وأنه دائماً ما يتم تكريم الأشرار من حولنا.
تفرّق الجميع، وفي اليوم التالي كان الكادر التدريسي في المدرسة منزوع المزاج، مرعوباً على غير العادة حين وجد مدير المدرسة قصاصة ورقية على طاولته كُتب عليها “سفّاح عام 1998”. لم يهتم المدير للأمر في وقتها، لكنه أصيب بالفزع حقاً ومعه باقي الكادر التدريسي حين وجدوا مثل تلك القصاصات في المكتبة وفي المختبر وفي دورات المياه وفي الصفوف والكوريدور والباحة.
سادت الفوضى المدرسة واستمرت تلك القصاصات بالتساقط على المدرسة لأيام، حتى بات الأمر تهديداً يرعب الجميع.
قرر المدير إجراء تحقيق في القضية، فقام بتفتيش كل شيء في المدرسة حتى الموظفين، من ثم طلب من كل طالب بأن يكتب على قصاصة ورقية عبارة “سفّاح عام 1998” ليقارنوا نوع الخط. وما هي مدة قليلة حتى جمع المدير الطلاب في الباحة، وقف على المنصة وقال للطلاب وعلى وجهه علائم الإرتياح: “لقد تم إلقاء القبض على السفاح وقد تم طرده، تهانينا”. دون أن يضيف أي شيء عن هوية السفّاح أو اسمه، لكن منذ ذلك الحين لم نعد نعلم أي شيء عن مصير تلك “الفتاة المستذئبة”، التي اختفت كما اختفت تلك القصاصات.
اقرأ أيضاً: ارتباطنا بالمدن خيط ممدود من عاطفة – شاهر جوهر
ملاحظة: هذه القصة حقيقية وقد حدثت في القنيطرة