الرئيسيةرأي وتحليل

ضد ثقافة الشكوى – أيهم محمود

عن السائقين الذين يختارون الراكبات الجميلات والراكبين الأصحاء

يتحدث السائق مع نفسه بصوت خفيض متفاخراً: “هذه جميلة”، لذلك يوقف “السرفيس” أمامها، ثم يمر بعد بضع أمتار من مكان توقفه بزوجين تجاوزا الستين من عمرهما، يتجاوزهما بسرعة رغم وجود مقاعد فارغة فهو يريد نوعية محددة من البشر ينتقيها بنفسه مثلما يفعل مع البضاعة في سوق الخضار.

سناك سوري-أيهم محمود

يقوم السائق بانتقاء الركاب وفقاً لقانونه الخاص الذي أقره بينه وبين نفسه وهو للأسف يستطيع تطبيقه في الواقع أيضاً، إما الجميلات، أو ذوي الصحة ممن يستطيعون الصعود إلى مملكته الخاصة المتنقلة بسرعة وخفة دون إضاعة أي دقيقة من وقته الثمين جداً، صعود سيدة عجوز تقف تحت المطر هي وزوجها يعيق مسار تميزه ونجاحه الاقتصادي والاجتماعي فهو وفقاً لاعتقاده يمتلك الطريق وما فيه من البشر، هو محقٌ في اعتقاده طالما يستطيع عملياً أن يفعل كل ما يحلو له.

أروي لكم قصة أخرى حدثت معي أثناء عودتي من القرية قبل بضع ايام فقط، أثناء عملي الهندسي الذي يستغرق معظم أيام الشهر أحمل حقيبة صغيرة في يدي وتكون نوعية ملابسي أفضل من تلك التي أستخدمها عند الذهاب إلى بستاني بعيداً عن ضغط العمل الفكري المرهق، تحاول سيارات التاكسي التوقف أمامي حال رؤيتها للحقيبة في يدي لأنها توحي للبعض بأني لست من زبائن وسائط النقل الجماعي، يتوقف السرفيس أمامي أيضاً بشكل طبيعي، لكن عندما أعود من العمل في بستاني الصغير أواجه أحياناً تعاملاً مختلفاً قد يصل إلى حد رفض تقديم خدمة النقل وأنا أحمل في يدي حقيبةً بسيطة فيها بعض منتجات البستان بملابسي المتواضعة وهو ما لا يجده البعض القليل من السائقين مناسباً لمستوى مملكتهم المتنقلة.

اقرأ أيضاً: المتاهة السورية الكهربائية – أيهم محمود

مقالات ذات صلة

هناك سائقين تتمنى لو تبقى معهم لكثرة لطفهم وتَفَهمهم معاناة أخوتهم، وهناك منهم من يعمل بصمت محاولاً الابتعاد عن انفجارات الغضب، يحمل فوق رأسه جبال المشاكل والأزمات مثله مثل معظم السوريين، وهناك البعض الذي نسي صورة كف جده وكف جدته في البساتين والمصانع والمعامل فصار يتنمر على العمال وعلى المظهر البسيط للناس، أصبحتُ في نظرهم شخصين مختلفين مع اختلاف نوعية ملابسي، فهل يجب أن أشتكي عليهم وأعلم أنه في حال الشكوى سيتم التعامل معها بجدية، هل يجب على المواطن أن يتحلى بـ “ثقافة الشكوى” كما يصفها بعض المسؤولين؟.

تشوه “ثقافة الشكوى” القضية وتحولها إلى حالة خلاف فردي بين طرفين يتدخل فيه الكبار لحسمه وإعادة الحق للمتضرر منه، في ثقافة الشكوى ينكمش مفهوم إدارة الدولة وتنظيم حياة الأفراد لينحصر في جزئية إدارة التناقضات التي تحدث بينهم فقط، بدل ابتكار الحلول المناسبة التي تمنع وجود الشكوى وتمنع تكرارها نجد الرغبة بالحفاظ على هذه التناقضات لأن استمرارها يمنح هؤلاء الموظفين عملاً دائماّ يبرر تضخم عددهم وحجم رواتبهم، الأصل في انتداب المجتمع لهم هو إيجاد الحلول التي تمنع وجود الشكوى وتنفي أسبابها، في مثال النقل السابق أعود في ذاكرتي إلى سوريا عام 1993 حيث كان باستطاعتي الوصول صباحاً إلى موقف باصات النقل في توقيت محدد لأني أعلم بدقة مقبولة مواعيد مروره، مالذي تغير في حياتنا وفي تنظيمها لكي نغرق بكل هذه الفوضى في النقل؟ النقل الذي يشبه شرايين الجسم إن تولدت فيها الخثرات الدموية شلت جزءاً من الجسد أو أضعفت وظيفته على أقل تقدير.

ما حدث هو الانتقال من نظام عمل المؤسسات إلى نظام فوضى الأفراد، فهمنا عملية التخصيص بأنها رميُ المجتمع في بحر فوضى أفراده ثم الاعتقاد بقدرة الفوضى على تنظيم نفسها بنفسها مثلما تفعل الأسواق، لا يمكن لأفراد مختلفين في وعيهم وفي ثقافتهم الحلول مكان شركة منظمة، انسحاب شركة النقل الداخلي من المشهد العام كان يجب أن يكون لصالح شركات خاصة بديلة وليس لصالح أفراد مستقلين.

اليوم لولا وجود الشركة العامة للنقل الداخلي التي تحاول ترميم الاختناقات في النقل لكُنا في حال سيئة للغاية، ليس لأن الأمر يتعلق بتباين الحالة الأخلاقية لمالكي وسائقي السرافيس بل بسبب إسناد مهمة لهم تقع خارج حدود قدراتهم وإمكاناتهم، النشاط الاقتصادي الفردي محكوم بالربح والخسارة، لو خسر السائق أو المالك ستتوقف قدرته على إعالة عائلته، لذلك يضطر السائق إلى التوقف في أول خط النقل لضمان امتلاء السرفيس أو امتلاء نصفه، هو لا يستطيع تقدير وجود المئات من الناس ينتظرون قدومه في مواقف لاحقة، وهو لا يستطيع المغامرة بالسير فارغاً مع التقلص المستمر في هامش ربحه نتيجة ظروفنا الاقتصادية الحالية.

اقرأ أيضاً: المواطن السوري المزعج في عصر الإنترنت – أيهم محمود

إذا القصة ليست مجرد سوء أخلاق جزءٍ منهم بل هي مشكلة واقعية يجب حلها فهم جزء من المجتمع أيضاً يعانون كما يعاني من ينتظر في الطريق دون جدوى، نقارن هذه الحالة الفردية مع حالة الشركة التي تستطيع بسهولة أن تتحمل خسارة سير أحد باصاتها بنصف امتلاء، تستطيع الشركة الاعتماد على تبادل المعلومات بين موظفيها لاتخاذ قرار إيقاف بعض باصاتها العاملة لتوفير الوقود، أو اتخاذ قرار تكثيف عملهم في أوقات الازدحام، التخصيص المطلوب هو انسحاب مؤسسات الدولة أمام مزيد من التنظيم ومزيد من الكفاءة وليس انسحابها أمام المزيد من العشوائية والمزيد من الفوضى في قطاعات لا تحتمل وجود الفوضى ولا تستطيع تنظيمها كما تفعل الأسواق التجارية.

كيف يمكن التحول باتجاه أنظمة الشركات مع وجود عشرات آلاف الأسر التي تعتمد في حياتها على نتاج وسيلة نقل مملوكة لها، نستطيع تعميم حالة النقل هذه على قطاعات كثيرة أخرى، مفهوم المسؤولية هو أكبر بكثير من اختصارها بصورة إدارة شيخ القبيلة للتناقضات المتولدة بين أفرادها، المسؤولية هي القدرة على ابتكار الحلول الواقعية التي تشبه آلات المصانع في عملها الدقيق، يمكن تشكيل شركات نقل داخلي خاصة متنافسة ينضم إليها مالكو السرافيس بصفة مساهمين فيها بآلياتهم، أو يمكن فصل الإدارة كلياً عن ملكية وسائط النقل وهو ما يتطلب نقلة تقنية عالية لا تتوفر مواردها حالياً، نحتاج أيضاً التخطيط للانتقال التدريجي من ثقافة السرافيس إلى ثقافة باصات النقل الكبيرة داخل المدن على الأقل، قطاع النقل يحتاج إلى تفكير عميق يراعي مصالح الجميع خاصة مع وصولنا إلى عصر انتهاء الوقود الأحفوري.

مفهوم المسؤولية أبعد بكثير من عملية معالجة شكوى، إن كانت الشكوى هي آلية المسؤول لمعرفة ما يجري من أحداث حوله فهذه كارثة حقيقية ينطبق عليها بيت الشعر الشهير:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ….. وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

اقرأ أيضاً: الحكومة تطلب من المواطنين التمتع بثقافة الشكوى … لغير الله مذلة

زر الذهاب إلى الأعلى