العنف المعنوي يبدأ بالجهل التربوي – ناجي سعيد
أخطاء تربوية تؤدي لأن يصبح طفلك أسيراً للمال دون أن تدري

سناك سوري-ناجي سعيد
هناك مثلٌ شائع يقول: “بتكون بدّك تكحّلها بتقوم بتعميها”، وما هو واضح من ظاهر المعنى، بأن الجملة تُقال لمن تكون نيّته فعلَ الخير، فيخطئ قصده. ولو وضعنا هذه المقولة أو الجملة في قالب تربوي، وتحديدًا التربية الأُسريّة، لأدركنا أن غالبية الأهل (أمّهات وآباء) يؤسسون لمجال ينمو فيه “العنف التربوي”، ليُنشئ جيلاً يحتكم إلى عاطفته القلبيّة، التي تجعل الأطفال تميل فورًا إلى من يعطيها بعض المال ويَصحبُها إلى أقرب محلّ سمانة لشراء الحلوى والسكاكر.
قلب الإنسان يميل إلى التملّك، وعقله إلى الكينونة. فقد عَنونَ أريك فروم كتابه عن هذا الموضوع: بالإنجليزية To Have or to Be، أمّا الترجمة العربية، فقد كانت أوّلاً من سلسلة عالم المعرفة: “الإنسان بين الجوهر والمظهر”، والعلاقة بين الكتاب المذكور والمثل الشعبي مع قضيّة العنف الأُسري، هي الميزان المُفترض الحفاظ عليه لاستمرار الحياة الأُسريّة بشكل سويّ ومتوازن.
فلا يجوز “للحاجّة” سارة، الحنونة العاطفيّة التي يُشهد لها بتربية ثمانية أولاد يواجهون معترك الحياة وصعوباتها بحصانة الأخلاق والمُثل العليا والقيم الإنسانيّة، لا يجوز لها، أن تُشغّل عاطفتها المنفردة، دونما العودة إلى الميزان التربوي (توازن العقل والقلب)، وتحزن بشدّة على طفلٍ تضربه أمّه (لجهلها التربوي) فيدفع الحاجّة حزنًا أبترًا، إلى مخاطبة الطفل دونما الأمّ، فتعزّز الجانب المادّي، من خلال إعطائه مالاً ليشتري ما يحلو له من “الدكّان”، وهذا تعزيز لفكرة التملّك، فيصبح الطفل مشروع رجل أعمال أو تاجر أسير المال لتجميع الثروة الطائلة.
منح الطفل المال لأنه ضُرب، يعزز لديه فكرة التملك، فيصبح أسيراً للمال ناجي سعيد
فالحاجّة العاطفيّة حين تجاهلتها أمّ الطفل، أدخلت على إدراك الطفل كانطباع أوّلي: “أمّي مُعتدية ظالمة”!! نعم، يجب ألاّ نستغرب عالم الطفولة ومساحة فهمهم للأمور. وما يعطّل العقل التربوي عند الحاجّة، تخدير القلب بعباراتٍ يقولها الناضج وتعطي شعورًا بالفرح، جرّاء بعض السلوك اللفظي وغير اللفظي الذي يقوم به الطفل، وهذا جدًّا طبيعي! ففي الوقت التي تطلق الحاجّة عبارات الفرح والدهشة من سلوك الطفل، مثل: “يا تقبرني/ يسلملي قلبك/ دخيل الله ما أذكاه/ اسمالله ما شفت حدا بعمره هيك!!!!”، يتكوّن بداخل هذا الطفل بناءٌ جميل الشكل من الخارج (لون الطلاء للجدران، النوافذ..) ولكن لا أساس تربوي لهذا البناء. فيعاني هشاشة، تجعله فور التصدّع عند أوّل نسمة ريح.
اقرأ أيضاً: اللاعنف يبدأ من معرفة الذات القوية – ناجي سعيد
كيف لطفلٍ لم يتسنَّ له معالجة أسباب بكائه حينها، حيث وضع الأهل بهارًا على الجرح، أن ينمو طفلهم ويتزوّج ويؤسّس عائلة سليمة تًشكّل مدماكًا للعائلة التي تبني وطنًا مُفرداته “مواطن تربوي”. حين تزوّجت ورُزقت بابنة، درّبت نفسي على تحمّل ضجيج البكاء. فأوّل معلومة تربوية اكتسبتها، أن لغة التواصل عند الطفل هي الصوت فقط، دون الكلام! فجهاز النطق عنده لم يكتمل بعد، فعندما يحتاج شيئًا، إمّا يبكي، أو يضحك، أو يصرخ أو “يكاغي”.
لغة الطفل الأصوات، وبالمقابل، وباعتقادٍ خاطئ من الأهل ولعجز جهاز النطق عند الطفل، يبتكر الأهل لغة مصدرها الأصوات التي يُصدرها، وهم يعتقدون أنّه قد يفهمها، دون إدراكهم بأنهم يؤخّرون نمو جهاز النطق لدى الطفل. كنت أخاطب ابنتي بلغة سليمة ناضجة (خالية من الواع والويع والأوّا ونبوّا)، فلو بدأت بالبكاء، كسلاح تضغط به لتحصل على مبتغاها، كنت أقول لها: إن ما تريديه الآن مرفوض للأسباب كذا وكذا.. وبكاؤكِ لا يزعجني ولا يؤثّر في تغيير قراري.. وبعد شعور ابنتي بتعطيل سلاح البكاء، تلجأ إلى استدراج عاطفة الأم، التي تُخبرها بأننّا مرجع تربوي واحد ولا يمكن الاختلاف بقرار تربوي واحد.
على الطفل أن يدرك بأن والداه مرجع تربوي واحد لا يمكن الاختلاف فيما بينهما على أي قرار ناجي سعيد
العنف المعنوي يبدأ: بالجهل التربوي، هذا دون الحديث عن الزواج المُسبق التدبير (قرابة وما إلى ذلك) ودون الحديث عن الإنجاب دون تحضير مُسبق للبيئة التربوية الآمنة للطفل، يقولون: “الولد بيجي وبتجي رزقته معه”، فالفهم التربوي هنا مُقتصر على الناحية الماديّة. وهذا تمامًا ما يفاقم حالات العنف الأُسري، حيث يُصبح الأب المُطالب من زوجته وأهله والمجتمع بأكمله، بتأمين قوت لأسرته، ولو عاد يومًا من عمله، بعد مشكلة جعلت مديره يحسم له من راتبه، يضرب أولاده وزوجته كـ “فشّة خلق”.
التربية ليست اعتباطية، وليست أمرًا ثانويًّا، إن التربية قرار واضح وسليم، وما يعيب مجتمعنا، أنّ جملة “سبق الإصرار والترصّد” تُعتمد للجرائم وتُقال في المحاكم، ولا يعيرها اهتمامًا الأهل والمدارس، فينتشر العنف ليصبح في المجتمع مألوفًا، وداخل الأسرة عفويًّا.
اقرأ أيضاً: اللاعنف يحتاج قراراً ليس فقط تعليماً – ناجي سعيد