الرئيسيةرأي وتحليل

ليسوا أشراراً فالشر يحتاج ذكاء – أيهم محمود

ربما لن تعودوا تلوموهم حين تقرأون هذه المادة!

سناك سوري-أيهم محمود

شاهدت صدفةً في مادةٍ متوفرة على اليوتيوب مقابلةً مع أحد الأشخاص الذي كانت له علاقة اجتماعية مباشرة، مع أحد أفراد إحدى العائلات العالمية الغنية المتهمة بأنها تدير قسماً مهماً من الاقتصاد العالمي، رحلتْ معظم وقائع المقابلة من ذاكرتي لكن جملةً واحدة فقط بقيت تدور فيها حتى هذه اللحظة: “إنهم لا يهتمون بمعاناة الآخرين، لا يهتمون على الإطلاق”.

قد يبدو هذا الوصف مؤكِداً ومغذياً لنظرية المؤامرة، عائلةٌ واحدة فقط لا تهتم، أو ربما مجموعة عائلات، ربما هم أفراد تنظيمٍ سري عالمي، أو حتى مؤيدي مبدأ اقتصادي عالمي، لكن هذه الصور والتخيلات ليست صحيحة، فالقضية أكثرُ بساطةً من مؤامرة، هم فقط لا يشعرون، وهم أيضاً أكثر عدداً مما تتخيلون.

حين قالت ماري أنطوانيت :”لماذا لا يأكلون البسكويت إن لم يتوفر الخبز”، كانت ملاحظتها هذه غبية للغاية. تبلدُ الشعور وخفوت التناقضات في حياة الإنسان يحوله إلى كتلةٍ لزجة راكدة، ركودُ العقل هو تقدمٌ حتميٌ لمستوى الغباء الاجتماعي والتاريخي، لذلك لم تشعر العائلة الحاكمة الفرنسية بخطورة الحالة العامة في بلادهم، إلا حينما شاهدوا المقصلة أمامهم، ربما يظن عامة الشعب أن هؤلاء الأشخاص أذكياء، العكس هو الصحيح، هم لا يدركون ما يحدث حولهم، ليس هذا تبريراً لهم بل إدانةٌ إضافية يجب تسجيلها في وقائع تاريخهم.

خلال نشاطي الطويل في مواقع التواصل الاجتماعي نشرتُ فيها آلاف المواد القصيرة أو الطويلة، كان هناك دائماً من يستجيب لرصد حالات الفقر والعجز الاقتصادي -عند شريحةٍ ما زال عدد أفرادها يتزايد بسرعةٍ كبيرة- بالقول: “لماذا لا يعملون؟”، أو، “لماذا لا يعملون عملاً إضافياً إن كانوا محتاجين للمال”.

اقرأ أيضاً: هل تعلمون كم تبلغ نشرة أسعار الغذاء بالسجن؟ – أيهم محمود

هذه التعليقات التي مرت على صفحتي عشرات المرات خلال السنوات الماضية، صدرت من قبل أشخاص يقفون فوق قواعد مختلفة، بعضها الراحة الاقتصادية التي دفعت ماري أنطوانيت لقول جملتها الشهيرة، يختلف المؤرخون حول صدورها منها بهذه الصيغة، لكنها بالتأكيد لم تكن تشعر بمعنى الفقر والجوع في بلادها، ولم يشعر أيضاً بهذا الفقر أفراد الطبقة الحاكمة المحيطة بها، هذه الجملة الغريبة هي عنوان حالة البلادة الفكرية والعاطفية التي عاشها الملوك والأباطرة والقياصرة، جملةٌ دقيقة التعبير بشكلٍ مذهل، سواءٌ كانت سخريةً متعمدة أطلقها أحدٌ ما، أو كانت حقيقيةً تاريخيةً موثقة.

بعض عدم التعاطف الإنساني والبلادة الفكرية له أسبابه الأخرى، كأن يحكم مُطلق الأحكام النهائية على شعوب أو جماعات بأكملها انطلاقاً من حالةٍ عنصرية أو قومية أو دينية، أو حتى طائفية، هو فعلُ تشيئ الآخر، نفيه من الحالة الإنسانية وتحميله أسباب الاضطهاد والظلم الواقع عليه.

لكي يرتاح ضمير الظالم عليه أن يفك الخيط الإنساني الذي يربطه ببقية البشر لكي لا يشعر عبره باختلاجاتهم وهم يحتضرون أو حين يعانون الألم، رأينا في العالم حولنا ملايين الأمثلة عن فقراء الأمس حين يفقدون ضميرهم تدريجياً ويتحولون إلى عصاباتٍ وطغاة يسحقون أهلهم ومناطقهم، هي ليست مؤامرةَ عائلةٍ عالمية أو حتى مجموعة عائلات، بل هو الإنسان حين يموت وعيه وضميره ليبقى جسده وحده حياً.

في سوريا المنكوبة بالحرب والفقر والجوع والقهر، تستطيع ملاحظة وجود مثل هؤلاء الأفراد، عليك أن تمر فقط من جانب أحد الملاهي الفاخرة المخصصة لهم وحدهم، راقبوا وجوههم وتصرفاتهم، راقبوا صفحاتهم وتعليقاتهم، نمط حياتهم، هم يعيشون في عالمٍ آخر، بعيدٌ جداً عما يجري حولهم، هم ليسوا أشراراً، فالشر يحتاج الذكاء وهو غير متوفر لهم بسبب عدم إمكانية شرائه من الأسواق لذلك لا يمكنهم الحصول عليه كما اعتادوا مع كل شيءٍ في حياتهم، ستجد ابتساماتهم على وجوههم بكامل أناقتها وبهائها وكأنها لم تمسها الحرب، سعداءٌ يستمتعون بحياتهم، لا شيء مميز فيهم سوى أنه فقط لا يشعرون بشيء، هم يحتفلون فقط، حتى هذا الفعل لا يوجد سببٌ مباشر له.

اقرأ أيضاً: إن أتتك رياح الكورونا فاغتنمها – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى