أزمات هندسية – أيهم محمود
يرفض السوريون أي مواصفة محلية أو عالمية أثناء صناعتهم لمنتجاتهم الداخلية حين تتعارض مع مبدأ الربح الأعلى أو مبدأ الربح الفاحش
سناك سوري-أيهم محمود
لا تظهر الأزمات السورية المتلاحقة في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية فقط، بل تذهب إلى مدى أبعد من ذلك بكثير لتتغلغل في كل مناحي الحياة التي نعيشها، أزمة السوريين أزمة ثقافة، أزمة إنكارٍ حاد لنتائج سلوكهم اليومي، وإصرارٌ عنيد على تحميل الآخرين مسؤولية سلوكهم الذاتي، سواء كان هذا الآخر دولاً نرغب بإلصاق كل أزماتنا المزمنة بها، أو كان مكونات اجتماعية سورية داخلية نُحمّلها كل الشرور والآثام لنبرر لأنفسنا عدم الانخراط الجاد في مراجعة موضوعية لسلوكنا اليومي، لأجل معالجة أسباب المشكلات المتوطنة في بلادنا.
اتفق على هذا السلوك المدمر معظم السوريين بما يشبه الإجماع التام، سلوكٌ قاتل يمنع احتمالات الصحو والخروج من الأزمات التي أنهكت حياتهم وأنهكت اقتصادهم وجعلتهم يتعرضون لمخاطر مميتة ليس الجوع أولها.
أطرح في هذه المقالة موضوعاً هندسياً علمياً هو جزء من سلسلة مقالات لاحقة، تُلقي الضوء على التناقضات الثقافية التي نعاني منها والتي تتحول فيما بعد إلى أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، اختيار صناعة البناء كموضوع رئيسي فيها يحكمه أمران: أولهما ذاتي يتعلق بمهنتي التي مارستها لما يقارب الثلاثين عاماً، والآخر اقتصادي بحكم كون صناعة البناء تستلتزم موارداً هائلة تستنزف معظم مدخرات السوريين، هي إذاً أمر هام من الناحية الاقتصادية ومن نواحي الأمان الجسدي والاجتماعي، المنزل كان عبر الأزمنة كلها خط الدفاع الأول الذي يحمي الجسد الإنساني الضعيف، من العوامل البئية القاسية عليه، ومن هنا تنبع الأهمية الاستثنائية له وللمسائل المرتبطة به.
اقرأ أيضاً: ثقافةٌ من ورق – أيهم محمود
سنتحدث لاحقاً وبشكلٍ علمي مبسط يمكن أن يكون مفهوماً للجميع عن أثر الربح غير المشروع الذي يحصل عليه صُنّاع الأبنية بتخفيض مواصفات الإنشاء، وكيف يؤثر هذا الأمر على خسارة نصف حياة المنشأ أحياناً، يتشارك في المسؤولية عن هذه الخسارة صُنّاع الأبنية والجهل العلمي العام حتى لدى الكثير من المختصين، من الأسباب الخطرة أيضاً ثقافة تقبّل الغش لدى المستهلك واعتماد المعيار المالي كعامل وحيد لتقييم جودة أي بضاعة دون النظر إلى مواصفاتها.
اعتمدت الجهات الرسمية قبل عدة سنوات إلزامية تصميم الأبنية لتحقق مواصفات العزل الحراري عن البيئة المحيطة بها، لكنها -مثلها مثل أي قانون أو توصية مهمة أخرى- بقيت حبيسة المخططات الورقية ولم تنتقل إلى حيز التنفيذ في الواقع، يرفض السوريون أي مواصفة محلية أو عالمية أثناء صناعتهم لمنتجاتهم الداخلية حين تتعارض مع مبدأ الربح الأعلى أو مبدأ الربح الفاحش، بتعبير آخر، هم يغشون أنفسهم بملء إرادتهم وبكامل وعيهم.
يدركون جيداً أهمية المواصفة عند شراء أجهزة اتصالاتهم على سبيل المثال، ويستطيعون التمييز بسهولة بين شركةٍ ذات سمعةٍ حسنة وأخرى أقل منها، السمعة هنا مكافئ الإلتزام بالمواصفة والإلتزام بالتطوير والتجديد والابتكار أيضاً، حين تضع الحكومات محددات قانونية وعلمية لتصميم الأبنية ونقوم نحن كأفراد بالتشارك والتكافل في اختراقها نكون أمام ثقافة عامة، وليس أمام عملية فساد.
اقرأ أيضاً: مساحة للدراسة – أيهم محمود
الجهل هنا خطير وقاتل وقد بدأنا تلمس نتائجه مع تصاعد أزمات الطاقة في العالم ومع فشل الكثير من أبنيتنا في حمايتنا من العوامل البيئية، واضطرار الكثيرين منا إلى الاعتماد على الطاقة الكهربائية للتدفئة والتبريد مما ساهم بشكل كبير في انهيارها وحرمان معظم السوريين من التطبيقات الأهم لوجودها، التطبيقات العلمية والمعرفية والتطبيقات الصناعية والصحية.
إنكار السوريين المستمر والمزمن لواقع أزمة الطاقة القادمة لا محالة عالمياً، دفعهم للاستمرار في بناء منازلهم بالمعارف المرتبطة بمبدأ أرخص سعر وأكبر توفير نقدي دون التفكير بأن كلفة إدارة المنزل طاقياً قد تستنزف منهم أضعاف أضعاف الوفر الذين ظنوا أنفسهم أذكياء حين استطاعوا الحصول عليه كقيمةٍ مالية، لا تعني أي شيء في واقع البقاء على قيد الحياة، لنذهب في زيارات سياحية إلى الكثير من المدن الأثرية القديمة، وقبل أن تبهرنا عظمة التاريخ، وعظمة الأبنية التي مازالت صامدة حتى تاريخنا الحالي، علينا أن نسأل أنفسنا ونسأل التاريخ أيضاً عن سبب هجر سكانها لها.
قد يكون السبب فشل منظومة آبار، أو تصحر، العوامل البيئية خطيرة جداً على حياة المدن الإنسانية واستمرار بقائها، نتمنى أن لا يأتي السياح المستقبليون إلى مدننا الحالية، التي لم تستطيع حماية سكانها من العوامل البيئية لأنهم اعتقدوا أن القوانين والمواصفات هي مجرد حبر على ورق وأنهم غير معنيين بها.
اقرأ أيضاً: هل سمعتم يوماً بحروب سعاد وسليم؟ – أيهم محمود