عنف الضرورة – ناجي سعيد
بماذا يجيب اللاعنفيون عن سؤال: ماذا لو هاجمك أحد المُسلّحين وهدّد عائلتك بالقتل والاغتصاب؟ هل تشهر وردةً بوجهه؟
سناك سوري-ناجي سعيد
إن سؤالًا تلقائّيًا يهاجمُك فورًا، ويأتي من الآخرين كمحاولة لإسكاتك، تعلن عن عدم اقتناع المُستمع بأنّك مؤمن باللاعنف، كفلسفة حياة بالطبع.
والسؤال المقصود هو: “ماذا لو هاجمك أحد المُسلّحين وهدّد عائلتك بالقتل والاغتصاب؟ هل تشهر وردةً بوجهه؟ أو تُقبّل يده؟؟ والجواب المطلوب، قد يُريح البعض وقد لا يُريح بعضًا آخر. إن هذا السؤال ينبع من القلب مباشرةً دون تفكير. والجواب بتفسير اللاعنف ليس وجبة سريعة تُطلب عند الشعور بالجوع.
نعم، فنحن نتكلّم عن نمط حياة، أو نهج فلسفي أقرب إلى مُعتقد له أتباع، ومسار يبني حياة بأكملها. ليس طرح اللاعنف هو طرحًا آنيًّا وليد اللحظة، وبالتالي، ليس مُستغربًا أن يسأل أحد القرّاء وخاصّةً بعد قراءة المقال السابق عن مواجهة العنف باللّاعنف: أليس جُبنًا أن تكون لاعنفيًّا في وجه من يهاجمك بسلاحه؟.
إنّه لمن الطبيعي أن تختلف ردّود فعل الأشخاص عند تعرّضهم لموقف عنيف. فاختلاف الناس حتميّ، وقد تكون أفضل طريقة علمية لفهم الاختلاف، هي بصمات الأصابع، فهي تميّز الأفراد بطريقة فيها استحالة للشكّ. في عودة لسؤال البداية، الجواب مرتبط بقدرة الإنسان على ضبط التوازن بين العقل والقلب. لا بل المطلوب أكثر من ذلك، هو فرض سيطرة تامّة للعقل.
ففي حالات فيضان المشاعر (حزن/ فرح/ خوف/غضب/قرف) -وهذا تمامًا من عمل القلب- تضمحلّ مساحة العقل والعقلانيّة. فمن الصعب بيولوجيًّا أن يعمل عضوان في جسم الإنسان في الوقت عينه بتوازن مطلوب. فالقلب هو المؤشّر الذي يظهر المشاعر. حيث تكون ردّة الفعل داخل جسم الإنسان هي نبضات القلب، تزيد وتنقص بالخفقان بحسب شعور اللحظة. وعلميًّا، من منّا لم يمرّ بحالة خفقان القلب السريع. بدءًا من مراهق ينبض قلبه لأول فتاة جميلة رآها وتصرّف معتقدًا بأنها فتاة أحلامه، تنسحب حالة خفقان القلب إلى كافّة الوضعيات التي تضع الإنسان في موضع “المرّة الأولى” (أول يوم: روضة/ مدرسة/ جامعة/ وظيفة..).
اقرأ أيضاً: سلاح اللاعنف – ناجي سعيد
وما أحاول سرده بالتفصيل لتوضيح الفرق بين العاطفة والعقلانية. بين القلب والعقل، ليس إلاّ لتدعيم موقفي مع فلسفة اللاعنف، وهي كفلسفة تكرّس نمط حياة إنساني بحت، من المعيب أن تكون انفعالية ارتجالية المواقف لحظويّة ردود الفعل.
عنف الضرورة، هو الثغرة التي يدخل منها غير القادرين على الثقة المطلقة بقدرة اللاعنف على مواجهة المواقف الحياتية العنيفة. لكنّ اللاعنف أغلق هذه الثغرة برمي كرة قرار المواجهة إلى ملعب الفرد. درست في الجامعة اختصاص الفلسفة، وعلمتُ تمامًا بأنّها تعالج مواضيع وجودية وحياتية، ولا تقترب من مواضيع ما بعد الحياتية. فالدين يعالج ويعرّف الناس بالحياة الآخرة. ولست أهرب من الموضوع الأساس، ففلاسفة اللاعنف تحدّثوا عن مفهوم “عنف الضرورة”.
وقد يكون قريب من الناس بعض الأمثلة الطبّية والتي تعتبر مختبر لإنسانية من يواجهها: امرأة تحمل طفلاً دون زواج شرعي، هل تُجهض أم لا؟ مريض ميؤوس من شفائه، هل ينفّذ الأطبّاء الموت الرحيم له؟ وأخيرًا، سؤال البداية، في حال التهديد المُسلّح، كيف تتصرّف؟ ليس مطلوبًا الإجابة على أسئلة تعجيزيّة. ولكي أكون واقعي، ومن تجربة شخصيّة عائليّة. أبلغ الطبيبُ أخي بأن زوجته الحامل، قد تلد طفلاً يعاني مرض التوحّد أو طرفًا منه. فما كانت من إنسانية العائلة الصغيرة إلاّ أن تستقبل مولودها الثاني “رام”، وتحتفي به، وتوليه التربية والعناية لمواجهة مشكلة صحّية، تحدث مع أي إنسان، ويستطيع مواجهتها إذا حافظ على إنسانيّته، التي تقوى وتكبر بقرار بقاء..الإنسانيّة.
قال بعضُ المؤرّخين بأن العنف هو بمثابة قوّة محرّكة للتاريخ. وأنا أرفض بشدّة هذه المقولة. فهو مخالف لطبيعة البشر. وإن كان غير مُخالف، فبِئس التاريخ الملطّخة صفحات أبطاله بلون الدماء. الفلسفة لخدمة وتنوير حياة الإنسان، فكيف الحال بفلسفة اللاعنف: إنها لخدمة البشريّة جمعاء، ولتأكيد مقولة الفيلسوف الفرنسي “جان ماري مولر”: الله محبّة.
اقرأ أيضاً: كيف نكون لاعنفيين – ناجي سعيد