هل قرأ أحدنا كتالوج هويّته قبل دخول عالم التكنولوجيا – ناجي سعيد
لو يجيد مارك زوكربيرغ قراءة اللغة العربيّة لتفاجأ في تحويل ابتكاره التربويّ الأهداف إلى جدار لتعليق أوراق “النعوة”
سناك سوري-ناجي سعيد
أذكر حين كنتُ في سنّ المراهقة، كيف كنّا ننزعج من أصوات الجيران! وليست المشكلة بتركيبة أصواتهم البيولوجيّة، التي تجعل من أصوات جيراننا أجشًّا، فمشكلتنا معهم تكمن في استخدامهم لأصواتهم بمستوى مرتفع ومزعج للآخرين. فالصوت مساحة خاصّة وهو مِلكٌ للأفراد، لكنّه ينطلق إلى الحيّز العام، حين يخرج من الحنجرة.
فمن آداب التواصل أن يُخفض الأنسان صوته، حين يكون متواجد في مكان مفتوح، فلو أراد الصراخ بصوتٍ عالٍ، عليه أن يُغلِق على نفسه. فالفرق بين المساحة العامة والخاصّة، بأنّ الأولى تَضبُطها معايير تحترم مساحات وحقوق الأخرين. فلا يحقّ أبدًا لعايدة ابنة الجيران المذكورين أعلاه، أن تهمس صراخًا (بصوتها الأجشّ) لتنهر طفلتها ابنة العشر سنوات: ” وليه بتسمعي كلمتي ما بدّي علّي صوتي في عاااااالم بالبوووووسطة” (حافلة نقل عام لمنطقتنا السكنيّة).
من الطبيعي ألا يحترم مساحة الآخرين من لم تُحترم مساحته الخاصة في الطفولة. نعم فالتربية هي التي تُشكّل حياة الإنسان. فقد شبّه الفلاسفةُ القدماءُ الطفلَ بالصفحة البيضاء. ومن الطبيعي أن كلّ من يمرّ بحياة الطفل، سيترك بصمته الخاصّة. وهكذا تكون المساحة الخاصّة لهويّة الفرد من صناعة الآخرين. ولكنّ القرار الأخير يأتي من نضج الفرد ووعيه، ليتّخذ القرار في تحديد مساحته الخاصّة وفصلها عن المساحات العامّة.
وفي نقلة نوعيّة تتعلّق بالغزو التكنولوجي لحياتنا، لم تُبارح المشكلة بين الخاص والعام مكانها. فمن قال إن التكنولوجيا تساهم في تطوير هوية الإنسان ليُظهِر سلوكًا حضاريًّا؟ فالعلاقة اطّراديه بين التكنولوجيا ووعي البشر. وأنا أتكلّم عن عالمنا الشرقي، كي لا أظلم الغرب. فمن كان يذهب ليقوم بواجب اجتماعي (أفراح، أتراح..) أصبح يستعيض عن التواصل الاجتماعي المباشر، بدخوله إلى عالم التواصل الاجتماعي كما يُدعى (عالم الإنترنت) ليقوم بواجبه! والسؤال لعامّة الناس: من تعنّى الاطّلاع على وجهة استعمال الفايسبوك مثلاً قبل دخوله؟ وكلّنا يعلم أن هدف مارك زوكربيرغ كان تعليميًّا عندما ابتكر الفايسبوك. ولو يجيد مارك قراءة اللغة العربيّة لتفاجأ في تحويل ابتكاره التربويّ الأهداف إلى جدار لتعليق أوراق “النعوة”.
اقرأ أيضاً: اللاعنف يبدأ من معرفة الذات القوية – ناجي سعيد
نعم فرحلة واحدة على متن الفايسبوك تتطلّب من الشخص جملاً تقليدية تُستخدم للتعازي والتهاني. والمشكلة التي ألحظها، هي انعكاس هويّة الفرد، والتي تربّى عليها عند العائلة. فلو كان قريبًا لدينٍ مُعيّن، فأجوبته التقليديّة تنحصر بين: “الله يرحمه/ها ويجعل مثواه/ها الجنّة”، لو كان قريب من الدين الإسلامي. و”لروحه السلام” أو باللغة الإنكليزية RIP، لو كان قريبًا للدين المسيحي. ولا أعلم لماذا يتبنّى أصدقاء كثيرون قريبون إلى الإلحاد، جملة الدين المسيحي؟ هل يعتبرونها أرقى؟ لا يهمّ، فتأثير التكنولوجيا على سلوك الناس وهويتهم، أصبح واضحًا من خلال: قلّة النشاط والميل إلى الكسل والبلادة، كما كان يقول لنا دكتور الفلسفة في الجامعة: “طولت إيدو هالإنسان”.
وأنا فخور لأنّي من جيل ما قبل الريموت كونترول، فكنّا نتداور انا وأخوتي على النهوض من مقاعدنا المسائيّة لتغيير قناة التلفاز التي نشاهدها، فقد كان مفتاحًا في لوحة التلفاز، نحرّكه باليد ويصدر صوتًا ألفناه (تك تك تك..). لقد امتدّ أثر التكنولوجيا على تقرير مصائر الشعوب. نعم والمثال هو ما حدث في لبنان من انتفاضة الشعب التي حرّكها رفع تسعيرة الانترنت في الموبايل (الواتساب). والمشكلة بأن الدافع ليس مُحقًّا، ولو كان ذلك لامتدّ الاعتراض على غلاء أسعار مواد غذائيّة!! لذا نستطيع ان نستنتج بأن التكنولوجيا حرّفت الهويّة للتمسّك بوسائل أسرع لتناقل الإشاعات وأخبار الناس السلبية أو التافهة!!.
فما الذي يعنيني أنا، لأقرأ بوستًا عاطفيًّا يمتلئ مشاعر الحب من أبٍ أو أمٍّ لابنهما/ ابنتهما؟؟ وقد محوت تعليقًا من أحد الأشخاص على صفحتي، يطلب منّي أن أتّصل به على الهاتف!! كمن يقف على قمّة جبل ويصرخ بأعلى صوته، ليسمعه أصدقائي الذين قاربوا الخمسة آلاف!! ولا أحد يهمّه هذا الشيء.
الفكرة الأخيرة التي خطرت ببالي: عند شراء آلة كهربائيّة (غسّالة/ برّاد/ تلفاز..) لا نستعملها قبل قراءة “الكتالوج”!! وهذا طبيعي، فهل قرأ أحدنا كتالوج هويّته قبل دخول عالم التكنولوجيا؟ ومن يملك أكثر من حساب على الفايسبوك، هل يملك أكثر من هويّة؟؟.
اقرأ أيضاً: الاعتراف بالفشل واللاعنف – ناجي سعيد