تناولت جريدة الأخبار في مقال منشور بعدد اليوم موضوع العفو الرئاسي عن الجرائم الإرهابية في سوريا وأجرت مقارنة بين التجربتين السورية والجزائرية التي سميت سابقاً العشرية السوداء قبل أن تتحول إلى “المأساة الوطنية”.
سناك سوري – متابعات
وجاء في المقال الذي حمل عنوان “انطلاق «العدالة التصالحية»: ليس بالعفو وحده تُطوى المأساة” لكاتبه بلال سليطين:
في العام 1992، اندلعت حرب طاحنة في الجزائر على خلفيّة أزمة سياسية كان طرفاها الجيش بما يمثّله من «حُكم العسكر» من جهة، و«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» من جهة أخرى. ودارت بين الطرفين معارك خلّفت مئات آلاف الضحايا والمعتقلين والمختطفين على جانبَي الحرب. كما امتدّ الصراع إلى معظم الأراضي الجزائرية، في سيناريو مشابه جزئياً لِمَا حدث في سوريا، سواءً على شكل حرب عصابات أو تفجيرات أو اغتيالات، بينما كان الشمال الجزائري نقطة التجمّع الأكبر لمسلّحي «الجماعة الإسلامية». وبالرغم من أن الضحايا من الطرفَين كانوا يسقطون كلّ يوم خلال «العشرية السوداء» أو «المأساة الوطنية»، كما اصطُلح على تسميتها لاحقاً، إلّا أن المفاوضات استمرّت تقريباً طوال سنوات الحرب العشر، وكان العهد الذهبي للحوار بعد العام 1994، مع تولّي الرئيس الجديد، اليمين زروال، الحُكم، حيث حاور قيادات «الجبهة»، القابعين في السجون، وعقد معهم اتفاقات أفضت إلى إخلاء سبيلهم، وساهمت في تقسيم الجبهة إلى جزء مؤيّد للحوار، وآخر رافض له. وبالنظر إلى التجربة السورية، فإن حالة التفاوض بالنسبة لدمشق كانت مختلفة إلى حدّ كبير؛ فالبُعد الرئيسي لها كان عسكرياً بهدف التوصّل إلى تسويات، ولربّما مثّل ذلك رؤية سورية خاصّة في التعامل مع كلّ منطقة بخصوصيّتها، فوقع التفاوض غالباً على إلقاء السلاح أو الترحيل إلى الشمال، الذي أصبح اليوم يشبه كثيراً بل ويتفوّق على الشمال الجزائري في تسعينيات القرن الماضي.
سرديّات الصراع
لم يكن من السهل على الجزائريين الموالين للطرفين، التخلّص بسهولة من السرديّات التي تمّ تبنّيها خلال الصراع حول الآخر الذي تمّت شيطنته تماماً. فالعسكر الذين رفضوا نتائج الانتخابات البرلمانية التي أفضت إلى فوز الإسلاميين، تبنّوا سرديات مواجهة عملاء ومرتزقة ومتآمرين، وأنهم هم حماة الوطن والجمهورية، أمّا الإسلاميون فطرحوا أنفسهم كحماة للدين، وخصومهم كمجموعة سَلبت إرادة الشعب وعادت الإسلام. في المقابل، تقاطعت السردية السورية الحكومية مع السردية العسكرية الجزائرية، في كثير من مفرداتها، وكذلك سردية المعارضة، والتي هي عملياً عدّة سرديات، بعضها يقول بالثورة والحرية والديموقراطية، وآخر يقول بالجهاد والنصرة وإقامة الحُكم الإسلامي، وهذه الأخيرة هي الغالبة على المشهد السوري المعارض.
وبالعودة إلى التجربة الجزائرية، وتحديداً العام 1999، فقد تركت الحرب ندوباً عميقة في الجسد الجزائري، تطلّبت مداواتها بدء الرئيس الجزائري آنذاك، عبد العزيز بوتفليقة، حواراً مع «الجبهة الإسلامية»، نتج منه عفو عن «الذين ارتكبوا جرائم إرهابية لم تسفر عن موت أحد»، وهذا التحديد يشبه كثيراً العفو الذي صدر في سوريا أخيراً. لكن بخلاف سوريا التي وضعت عنواناً تقليدياً لخطوتها الرسمية الجديدة نحو الحلّ، وهو «العفو» الذي انضوى تحت العنوان الأكبر: «المصالحة»، وجاء من دون حوار محلّي، فإن الجزائر سمّت مشروعها للحلّ الشامل «قانون الوئام المدني»، الذي تضمّن الإعفاء من المتابعات الأمنية والقضائية، وتخفيف العقوبات، وساهم في دفع الكثيرين من الجبهة إلى تسليم أسلحتهم، والانخراط في المصالحة الوطنية، التي سعت قيادة الجزائر لخلق بيئة مؤاتية لها، عبر خطابات ألقاها بوتفليقة في مختلف أرجاء البلاد، وقدّم خلالها الخطّة في سياق المصالحة الوطنية، وإنقاذ البلاد من أزماتها. وهكذا، طُرح المشروع للاستفتاء في العام 1999، ونال موافقة قرابة 98%.
اقرأ أيضاً: مشهد جسر الرئيس يفتح جراح السوريين على الماضي والحاضر
ما بعد الحرب
يبدو أن سوريا اختارت طريق الانتقال إلى ما بعد الحرب، من دون إعلان رسمي، عبر ما يسمّى بـ«العدالة التصالحية»، وهو ما كان الخيار الجزائري أيضاً. إلّا أن «قانون الوئام» القديم، المتقدّم جدّاً على قانون العفو السوري الجديد، والذي صنعته فعلياً السلطة المنتصرة في الجزائر، لم يُكتب له النجاح الكامل، بسبب عدم شموله حلولاً لمشكلات جوهرية خلّفتها الحرب. ولذا، لم تجد الجزائر بُدّاً من البحث عن بدائل لإنقاذ البلاد من حالة الفوضى، وإعادة علاقة الدولة مع جيرانها والمجتمع الدولي، وتقليص دور العسكر في الحياة السياسية. وانطلاقاً من ذلك، كان «ميثاق السلم والمصالحة»، الذي أُعلن عنه عام 2005، وشكّل مخرجاً مناسباً لأزمات جزائرية داخلية، تشهد سوريا مثيلاً لمعظمها اليوم. وبموجب الميثاق، ترسّخت نظرية «الجميع خاسرون»، وَتثبّت توصيف «المأساة الوطنية» على الأزمة الجزائرية في أدبيات الدولة، وهو ما ساهم في تخفيف الضرر النفسي والمعنوي لدى كلّ أطراف الصراع، خصوصاً بعدما جرى فرض قيود صارمة على تناول فترة الحرب، وعوقِب بالحبس مَن يكتب تاريخها.
وعلى رغم أن تلك القيود لا تزال مثار جدل إلى اليوم، إلّا أنها أوجدت حلولاً لقضايا تعاني منها دمشق حالياً كالمخطوفين والمغيّبين والمعتقلين، وأتاحت جبر الضرر عن الضحايا، والعفو، ومساعدة العائدين من القتال على الاندماج بالمجتمع، والأطفال المولودين من دون تسجيل رسمي، وغيرها من إجراءات «العدالة التصالحية»، التي أفضت في نهاية الأمر إلى استقرار الجزائر، وتجاوز دوّامة العنف، ووقف الأعمال الانتقامية. مع ذلك، يَنظر البعض إلى الاتفاق بعين ناقدة، كونه أنهى الحرب من دون إجراء قراءة أو مراجعة لها، وأتاح الإفلات من العقاب لكلّ المجرمين الذين شاركوا فيها وارتكبوا الفظائع. إلّا أن آخرين يرون فيه مساراً ناجحاً لإيقاف العنف. وبالمقارنة بين التجربة الجزائرية، وتلك التي تُصنع اليوم في سوريا، يَظهر أن «خطّة المصالحة» في الجزائر كانت واضحةً وعلنيةً، وترافقت مع مشروع سياسي. بينما في الحالة السورية، يبدو الأمر وكأنه خطوات مهمّة، لكن منفصلة، لا تزال تحتاج إلى مظلّة جامعة وهوية واضحة، تُقدَّم من خلالها للمواطنين. ولا تجيب التجربة الجزائرية على سؤال كيف يكون الحلّ في سوريا؛ فلكلّ بلد خصوصياته وظروفه، لكنّها بالتأكيد تعطي مؤشّرات عامة حول الفرق بين مفهوميَن لما بعد الحرب: «رابح وخاسر»، و«كلّنا خاسرون، لكنّنا نربح معاً».
اقرأ أيضاً: السجناء يصلون من صيدنايا إلى ذويهم… ونداء من اللاذقية للرئيس الأسد
المصدر : جريدة الأخبار