
«حطيت البصل وبدنا نحركو شوي» تقولها “سارة” بلهجة لاذقانية عفوية وهي تمسك المقلاة بأصابع صغيرة ملوّنة بالبهارات، قبل أن يطلّ شقيقها “جواد” ليعرض المساعدة، لا إضاءة مثالية ولا أدوات تصوير، فقط مطبخ منزلي بسيط ورائحة بصل وثوم تعبق من الفيديو الذي حصد آلاف الإعجابات.
سناك سوري-داليا عبد الكريم
“سارة وجواد” العنوان الذي اختارته الطفلة لصفحتها بالفيسبوك والتي تنشر فيها محتوى عن الطبخ من قريتها في اللاذقية، متحدثة بلهجتها ومتحدية كمية التنمر الذي يمكن أن تتعرض له.
تشرح لنا “سارة” بلهجتها عن “الاكلة الكتير طيبة”، يتدخل شقيقها الصغير ضمن جو أسري معتاد ليعرض مساعدته، تطلب إليه إحضار بعض الأغراض، ثم المغادرة، وبطريقة عفوية ينتهي الفيديو مع طلب من المتابعين “بوضع ألف لايك وألف تعليق”!
تبدو هذه الموجة من صانعي المحتوى المحليين، وكأنها تملأ الفراغ الذي تركه الإعلام الرسمي والموجّه، إذ تقدم محتوىً عفوياً بلغات الناس ولهجاتهم
قبل “سارة”، كانت لينا دنورة من مصياف قد فتحت الباب واسعاً أمام المحتوى السوري العفوي، حين قررت التحدث بلهجتها الأم دون محاولة تقليد اللهجة الشامية التي سيطرت لسنوات على الإعلام والدراما.
اشتهرت لينا بعبارة «والطعمي يا إلهي» التي تختم بها فيديوهاتها، لتصبح تلك الجملة مألوفة في بيوت كثيرة، تماماً كما أصبحت لهجتها مرادفاً للبساطة والصدق.

بعيداً عن انقسامات السوريين الحالية، والصورة النمطية التي اتخذوها عن بعضهم البعض، يبرز صناع المحتوى المتحدثون بلهجاتهم المحلية دون تصنع الحديث باللهجة الشامية الأكثر استخداماً عبر وسائل الإعلام والمسلسلات طيلة السنوات الماضية، فيتفاعل السوريون معهم ويكتسبون أفكاراً جديدة عن البيئات المختلفة تكسر الصور النمطية بالكامل.
من حلب، يظهر أحمد تادفي أو “أحبد” كما يحب أن ينادى ليقدم فيديوهات قصيرة تجمع النكتة باللهجة الحلبية، فـ”إيشبك خيو” و”كني” صارتا جزءاً من قاموس العفوية السورية.
بخفة ظله، استطاع “تادفي” أن يذيب شيئاً من الجليد الجغرافي بين المحافظات، ويذكّر السوريين بأن الضحك لغة وطنية لا لهجة لها.
وإلى الإمارات التي يخرج فيها “فادي المعاذ” ابن محافظة السويداء العديد من مقاطع الفيديو خفيفة الظل، التي تحاكي تفاصيل ومواقف يومية نعيشها في حياتنا بقالب كوميدي، وكل هذا بلهجته الأم، واشتهر بمقاطع فيديو “الجارة أم حسين” التي حققت رواجاً كبيراً.
“المعاذ” أمتعَ مشاهديه رغم تكرار بعض التفاصيل في كل فيديوهاته تقريباً مثل “شفت طيارة واشتقت لأرض الوطن، عبمزح”، أما مشهد أمه و”أم حسين”، فهو المشهد الذي يراه معظمنا في منازلنا، أي أن “أم حسين” من السويداء، ذاتها “أم حسين” في إدلب، وحلب وجبلة وحماة وحمص.

أما “محمد الشرتح” ابن إدلب فقد صُنع له مكانة خاصة بفضل حسه الساخر وجرأته في النقد ولسانه اللاذع، لدرجة تابعه فيها حتى مؤيدو النظام السابق سراً، لأن الضحك أمام شاشته كان أقوى من الاصطفاف السياسي.
“أم حسين”، هو المشهد الذي يراه معظمنا في منازلنا، أي أن “أم حسين” من السويداء، ذاتها “أم حسين” في إدلب، وحلب وجبلة وحماة وحمص
مساحة للتعرف على بعضنا البعض
بين اللهجة الساحلية التي تذكّر برائحة البحر ولهجة الشمال الحلبية الممزوجة بخفة الدم، ولهجة السويداء المائلة إلى الطيبة والعفوية، ولهجة إدلب الحادة التي تخفي وراءها بساطة الريف وحميميته، بات السوريون يجدون في المحتوى المحلي مساحة للتعرف على بعضهم من جديد، بلا وسائط ولا خطاب رسمي ولا تحزّب.
فمن خلال مقاطع قصيرة على “تيك توك” و”فيسبوك” و”يوتيوب”، نجح هؤلاء في تقديم سوريا الحقيقية، سوريا التي تضحك وتطبخ وتغنّي وتتشاجر أحياناً لكنها تبقى واحدة في همّها اليومي وحبّها للحياة.
وتبدو هذه الموجة من صانعي المحتوى المحليين، وكأنها تملأ الفراغ الذي تركه الإعلام الرسمي والموجّه، إذ تقدم محتوىً عفوياً بلغات الناس ولهجاتهم، لا شعارات ولا بيانات، وبدل أن تكون اللهجة سبباً للتنمر أو التقسيم، صارت جسراً للتعرف والفضول والمحبة.
في النهاية، لا يمكن القول إن السوشيل ميديا وحدها ستعيد وصل ما انقطع، لكنها تُعيد تعريف السوريين بأنفسهم من جديد، وتمنحهم لغة مشتركة من العفوية والضحك والتجربة اليومية.
فكما وحّدت الحرب السوريين في الخسارات، يمكن أن توحدهم الحياة في التفاصيل الصغيرة، في لهجة، أو أكلة، أو نكتة، أو طريقة نداء أمّ لابنها في فيديو عابر لكنها تكفي لتقول إن ما يجمع السوريين أكبر بكثير مما فرّقهم.

