ملهاة التغيير السياسي – أيهم محمود
التعذيب حرامٌ إن وقع علينا وحلالٌ إن وقع على من نختلف معهم في الفكر أو حتى لون البشرة
سناك سوري-أيهم محمود
في العالم كله وليس في الشرق وحده، هي مشكلة إنسانية عامة، لكن مظاهرها الشرقية أكثر حدة وأكثر وضوحاً، لا يملك الشرق مهارات الغرب في التعمية عليها، وليس لديه المرونة لترك بعض الثقوب الصغيرة في الجدار الأصم تمنح بعض الأمل في إنجاز تغيير إنساني حقيقي طويل الأمد، لذلك يبقى العنف المبالغ به حاضراً في أدبيات كل محاولة تغيير ولو كان الأمر مجرد تغيير ضروري في عادةٍ قبليةٍ ظالمة، قد يندلع العنف في أي مكان في الشرق المشبع بالوقود فعن أي مشكلةٍ نتحدث؟.
يعاني العالم كله بشكل عام من ما يُطلق عليه بعض الإعلام الشرقي “ازدواجية المعايير”، وهو تعبير دبلوماسي لا يؤدي الغرض المطلوب منه اجتماعياً لأنه يقتصر على المناكفات السياسية، ولا يمتد ليشمل الحالة الإنسانية الاجتماعية العامة، هو مرضٌ إنساني أخلاقي عام يسبب من الوفيات والتشوهات أكثر مما فعلت موجات كورونا أو حتى مما فعل الطاعون الأسود في تاريخ البشرية كلها، أُفضّل التعميم والابتعاد عن مصطلح “ازدواجية المعايير”، لأستخدم بدلاً منه مفهوماً هندسياً تقنياً “صمام عدم الرجوع”: تلك القطعة البسيطة التي تسمح للسوائل بالمرور في اتجاه واحد فقط وتمنعها كلياً أو جزئياً من المرور في الاتجاه المعاكس للحركة المرغوب بها.
صمام عدم الرجوع ليس حكراً على الغرب السياسي ومعاييره المزدوجة بل هو خللٌ إنسانيٌ عام يبدأ في شرقنا من الأم التي تفتخر بعلاقات ابنها النسائية ثم تجرّمها لدى ابنتها بعنفٍ قد يصل إلى حد القتل، صمامٌ نراه بوضوح في تجاهل المجتمع للعلاقات الجنسية للرجال وإدانتها بعنفٍ لفظي أو جسدي لدى الأنثى، نجده أيضاً لدى الأم التي تطالب في عيد المرأة بضرورة احترام المجتمع لحقوق الأنثى والزوجة والأم، ثم تقوم هي نفسها بنقل ثقافة التسلط لابنها الذكر لكي يستخدمها لاحقاً في قمع زوجته وأخواته، الأم التي تشتكي من الذكورة الفائضة القاسية في مجتمعاتنا الشرقية هي نفسها التي تزرع هذه الذكورة العنيفة في وعي أبنائها بل وتفتخر بعنف أفعالهم.
الغرب الذي يُسَخِّر إعلامه لإظهار مشهد إنقاذ قطة من فوق شجرة، هو ذاته الذي يخنق ملايين حيوانات “المنك” بالغاز لكي لا يتلف فراؤها قبل سلخه وتحويله إلى معاطف باهظة الثمن، هو نفسه الذي يدعم بقوة وإصرار ومثابرة أعنف الديكتاتوريات في العالم ثم يدينها ظاهرياً في إعلامه، هو الذي لا يسأل إعلامه عن ثمن رفاهية أفراده وكم مات من فقراء البلدان الأخرى لكي يحصلوا عليها.
اقرأ أيضاً: على الأرصفة.. ألغام مضادة للأفراد – أيهم محمود
العقل المرهف الحساس الذي يفخر بإنقاذ قطة من فوق شجرة، والذي يدّعي أيضاً القدرة على التجريد والبحث العلمي والتقصي الموضوعي عن حقائق العالم كله، هو ذاته الذي لا يستطيع اكتشاف الثمن الحقيقي للطعام الموجود أمامه على موائده، ولا يستطيع اكتشاف كم الجوع والقهر الذي تم فرضه على مناطق شاسعة من العالم لأجل الحفاظ على هذه الرفاهية، تيار الوعي والبحث العلمي والعقل التجريدي يمر في اتجاه واحد فقط: اتجاه المصالح.
التعذيب حرامٌ إن وقع علينا وحلالٌ إن وقع على من نختلف معهم في الفكر أو حتى لون البشرة، السرقة حلالٌ لنا حرامٌ على غيرنا ولا فرق بين شرق وغرب وبين شمال وجنوب في هذه النقطة، لن أستفيض في ذكر الأمثلة فعالمنا مشبعٌ بها وهو يهوي فعلاً مع اكتمال طوق الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تعصف بكوكب الأرض، كل الأزمات تنبع من قدرة الانسان على تضليل نفسه، من قدرته على إدمان استخدام صمام عدم الرجوع لتتبدل الحقائق والنتائج وفقاً لاتجاه سير القضية، فالعبودية أمرٌ جيد إن كنا نحن من نستعبد الآخرين وهي أمرٌ بغيض وكريه جداً إن قام الآخرون باستعبادنا.
مازلنا إنسانياً وعلى مستوى العالم كله بعيدين عن النضج، نعيش وسط أزمات حادة مهددة للوجود البشري بأسره طالما يركن الجميع للأعمال الدعائية مع تجنبهم الخوض في جذور المشكلات الإنسانية العاجلة والملحة، لم نبتعد كثيراً عن القرون الوسطى الغربية ويبدو أن العالم الآن أكثر من مهيأ للنكوص إلى سوادها مرةً أخرى.
الإلهاء بالسياسات والنقاشات السياسية على المستوى المحلي أو العالمي، مجرد إضاعة للوقت وصرف الوعي عن رؤية المشكلات الإنسانية الحقيقية المهددة لوجودنا، يجب على الإنسانية التوقف لتراجع حساباتها قبل أن تدمر نفسها وتدمر بيئة كوكب الأرض معها، هذا الأمر ما زال بعيد التحقق في عالمٍ تزداد فيه الأوهام وتزداد فيه الدعايات العنصرية للفصل بين عالمٍ متخلف وعالمٍ متقدم، بينما الحقائق القاسية تعمل بصمت وتقود الجميع إلى نهايات كارثية محتومة وموحدة.
اقرأ أيضاً: هل يواجَه الغزو الأميركي بالانعزال الثقافي؟ – أيهم محمود