مساحة للدراسة – أيهم محمود
ما يحتاجه مجتمعنا فعلاً مبادراتٌ لطيفة لنشر الضوء ونشر العطر وإعادة الإنتاج الكثيف للمعرفة
سناك سوري-أيهم محمود
مركز “Study Zone”، في اللاذقية، مكانٌ صغير بحجم شقة سكنية يتسع لمشروع بمساحة أمل، بمساحة انتماء حقيقية لأرضٍ تستحق أن تُكمل مسيرتها الإنسانية بعد أن أمعن جزءٌ من أهلها ودولٌ لا تهتم بضحايا جشعها في تدميرها وقتل الحلم في قلوب شبابها، لم يذهب صانعو هذا المشروع إلى إشباع البطون وإحداث الضجة الزائفة عن العمل الخيري في مجتمعهم بل ذهبوا إلى منبع أي أملٍ بالنهوض والاستمرار على قيد الوجود، مضوا بلطفٍ إلى العقل الذي يعمل، إلى العقول المبدعة التي تحتاج فرصة حياة، قد لا تموت الشعوب إن انخفض مستوى ما تتناوله من غذاء لكنها حتماً تذوي وتنتهي إن طال أمد تعطيل العقول فيها.
المركز يتبع لجمعية “hope center” مطرانية اللاتين في “حلب”، ويوفر للطلاب والراغبين، جواً هادئاً للدراسة والقراءة، حيث لا ضوضاء ولا رنين موبايل، رسم الدخول 200 ليرة سورية فقط، من الساعة 9 ونصف صباحاً وحتى الـ9 والنصف مساءاً، ويحوي قسماً للدراسة الفردية وآخر للدراسة الجماعية.
في أزمة الكهرباء، وأزمة حاجتنا للضوء ولمساحات الهدوء في مجتمعٍ طال أمد الصراخ العبثي لأفراده، صنعوا مساحةً صغيرة ليعبر منها النور إلى العقول عبر غبار المعارك الفعلية واللفظية وعبر غبار العجز والرياء والتملق، لم نشاهد شبان وشابات يلتقطون الصور التذكارية مع حقائب المعونات ثم يتركون الضحية لتحيا بقية عمرها الطويل مع النسيان والإهمال، بل شاهدت شبان يحملون ثقافةً عالية يساعدون أقرانهم في الظل اللطيف لوجودهم وللمكان الذي يقدمون المساعدة فيه، مليارات الدولارات تم صرفها فوق هذه الأرض على السلاح وعلى الجوع التالي لاستخدام السلاح ولو تم صرف بعضها فقط على مشاريع من هذا النوع لتمت المحافظة على استمرارية عملية انتاج النخب العلمية التي تستطيع حتماَ بناء عدة أوطان وليس وطناً واحداً فقط.
بمبلغٍ قليلٍ مقارنةً بما تم صرفه على أدوات الخراب وأدوات الاستعراض السياسي والاجتماعي صنعوا واحةً صغيرة للنور، واحةً للرحمة والتواصل بين ضحايا عجز الفرقاء المتخاصمين عن التفكير بمستقبل شبابٍ يتم قتل أرواحهم وأحلامهم يومياً عبر دفعهم إلى خانة انتظار الطعام وخانة انتظار الكهرباء وخانة انتظار الاتصالات، منطقةٌ تقدم المتاح الممكن، وهذا القليل الذي تقدمه يُحدث فرقاً حقيقياً في مجتمعٍ يحتاج الكثير الكثير من هذه المبادرات.
اقرأ أيضاً: هل سمعتم يوماً بحروب سعاد وسليم؟ – أيهم محمود
ربما يجب أن تتوجه الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية لزيارة هذا المكان، ليس لكي يشاهدوه أو يعلنوا عن صفتهم هناك ثم يرحلوا، بل ليجلسوا دون ضجيج ودون إعلان عن هويتهم، يوماً، يومين، ثلاثة، أسبوعاً أو أسبوعين، شهراً أو أكثر، إلى أن يتعلموا أن ما يحتاجه مجتمعنا فعلاً مبادراتٌ لطيفة لنشر الضوء ونشر العطر وإعادة الإنتاج الكثيف للمعرفة فرهان أعداء هذه الأرض هو على قتل الفكر وليس على قتل اللحم، نستطيع عبر التكاثر والإنجاب تعويض خسارة الأجساد في زمنٍ قصيرٍ نسبياً لكن قد تمضي عشرات السنوات أو حتى قروناً من الزمان حتى نستعيد عافية الثقافة وعافية المعرفة إن خسرنا عقول اليوم، هي دعوةٌ لمن يظن أن غذاء الأمعاء أهم من غذاء العقول إلى التفكير بإعادة بناء الإنسان.
ليس مهماً أن نسكن بيوت الطين المصنوعة من المواد المحلية المتوفرة في تربة بلادنا، ليس مهماً أن نأكل البسيط من الطعام الكافي للبقاء على قيد الحياة، كل هذه الأمور صغائرٌ أمام تغذية العقول وتغذية الأمل عبر التوجه إلى تشكيل مثل هذه المساحات للثقافة والمعرفة إن تعذر إعادة الطاقة إلى المنازل، لماذا لا يتوقف استيراد المتة والقهوة وكثير من المواد الأخرى التي عاش السوريون طويلاً ولقرون طويلة قبلها ليتم توجيه هذه الدولارات إلى دعم استيراد أدوات الاتصال والحواسب وبوابات الانترنت، شرب القهوة لن يجعل العقول تصحوا لكن المعرفة بالتأكيد تفعل، أعلم أن هذا الكلام ليس شعبياً ولن يعجب معظم الناس، خاصة أولئك الذين “يحتسوا” القهوة لكتابة سطرٍ أو سطرين من الإبداع.
تحية من القلب ومن العقل لمن فكر في إنشاء هذا المشروع، فكرةٌ ذكية تحاول أن تقلص خسائرها المادية قدر الإمكان من أجل الاستمرار، أوليس هذا ما تفعله حقاً الحياة؟، مباركةٌ تلك الأرواح التي لم تمت ومازالت تنشر في المكان والزمان المناسب ضوء الأمل وضوء الحياة.
اقرأ أيضاً: أوهام الخلود والإنجازات العظيمة – أيهم محمود