ماهي جدوى الحوار من دون الاستماع للآخر؟ – رامي فيتالي
من يتابع ما يشبهه ويستمع فقط لما يعجبه… يصبح كالأصم
سناك سوري-رامي فيتالي
في اللغة العربية للاستماع ثلاث كلمات، تتدرج في المستوى، وأتحدث هنا عن المعنى العام السائد الذي قد لا يوافق عليه مؤلفو بعض معاجم اللغة: ١- السماع، ٢- الإنصات، ٣- الإصغاء.
السماع آلية عصبية غير واعية ومن الصعب منعها أو وقفها، فبخلاف العيون لا يؤدي دوران الرأس أو وجود عائق لعدم وصول الصوت للآذان، ولا تملك الأذن البشرية كالعين بابا يمكن إغلاقه بسهولة لمنع وصول منبه الإحساس. لربما عوّل السيد المسيح على هذه الخاصية لمّا كرر مراراً “من له أذنان للسمع فليسمع”، هو لم يقل “من له عينان للرؤية فليرَ”، فمن يملك أذنا من الصعب أن يمنع الصوت من الوصول لأذنه ويقصد أنه لا يستطيع أن يحتج أحد بعدم تمكنه من سماع تعاليمه وتباشيره.
لكن وصول الصوت للأذن ثم إلى الدماغ لا يعني أنها قد وصلت لدى السامع لمستوى الوعي، فالسماع المجرد خاصية طبيعية لدى البشر للتنبه من وجود خطر، ويبقى على مستوى اللاوعي إن لم ينقله السامع برغبته إلى المستوى الثاني، أي الإنصات.
الإنصات يكون إذا في الانتباه للصوت، وإن كان صوتاً لشخص متحدث فيعني التركيز في الكلام والاهتمام به وبكل كلمة منه، والمنصت الجيد يستمع بتأنٍ ويجيب بعد انتهاء المتحدث كلامه أو فكرته، وهنا الإجابة تعكس حقيقة فيما إذا كان المستمع منصتاً فقط أم مصغياً أيضاً، والإصغاء هو المستوى الثالث من الاستماع.
يمكن تعريف الإصغاء بدقة بأنه استعداد المستمع للقبول بفكرة المتحدث الآخر، حتى لو خالفت رأيه أو قراره السابق، وتتم الموازنة بين الآراء المختلفة -ولو جاءت من قبل عدد كبير من الأشخاص- على مقياس علم المنطق، العلم الذي أول من وضع أسسه الفيلسوف “أرسطو”، معبراً عن ضرورة الانتقال بالحوار الفلسفي والعلمي من أسلوب السفسطة، أي محاولة تثبيت كل طرف رأيه بغض النظر عن مدى صوابيته، إلى أسلوب الحوار الذي يهدف للوصول إلى الحقيقة، بمفهومها العلمي.
المنطق إذاً ليس علم التفكير كما يعتقد كثيرون، بل علم الحوار للوصول به للحقيقة، أو للصواب بتعبير أدق. فللإنسان طرق غريبة ومعقدة في التفكير، وهي اليوم تلاقي اهتماماً متزايداً من علماء الكومبيوتر لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. من جهة أخرى أن يزمع شخص على طرح رأيه للحوار فهذا سيجعله تلقائياً يراجع منطقيته وهذا سيفيده نفسه حتى قبل طرحه أمام الآخرين.
اقرأ أيضاً: هكذا هو القانون هكذا هي التعليمات – رامي فيتالي
لكن لا معنى للمنطق إن لم يتحقق أولاً السماع، والإنصات، والإصغاء.
في عصر الإنترنت نحن محاطون بكمية هائلة من الآراء والمعلومات المتنوعة، ولذلك يصبح السماع والإنصات والإصغاء أكثر صعوبة.
من يتجنب القراءة والاطلاع على المصادر الكثيرة المتوفرة بسهولة هذا يرفض السماع، يرفض السماع أيضاً من لا يتابع مواقع ومجموعات وأشخاص يبدو له أن توجهاتهم مختلفة عن توجهاته، هذا يجعله في أحيان كثيرة كالأصم الذي لا يدري بأحاديث كثيرة تجري حوله وقد تهمه جدا.
كثيرون أيضا يطلعون ويقرؤون ويسمعون لكن بطريقة عبثية ودون اهتمام، ولو سألت واحداً منهم عما قرأ وسمع، أو إذا كتب من نفسه تعليقاً، تجد أن المعنى المقصود قد غاب عنه تماماً. هو لا يعرف أن ينصت، وهذا يجعله ليس بأهلٍ للدخول بحوار حول الموضوع من الأساس.
أيضاً هناك من يسمع وينصت ولكن كبرياءه يمنعه من القبول برأي الآخر، وقد يكون رأيه الخاص ضد مصلحته ومع ذلك يصر عليه ولا يعطي فرصة بالتالي للمنطق بأخذ دوره. أحياناً يكون الإصرار على الاقتناع برأي لأن قائله شخص آخر وهو بمنزلة المقدس لدى معتنق الرأي وبذلك يعارض أي نقاش فيه. بجميع هذه الحالات هذا لا يصغي.
للأسف كثيرة هي الحيل التي يمارسها أغلبنا للتملص من الوصول إلى النقاش المنطقي، حتى لو كان في سبيل قرار ينعكس تأثيره على المجموعة المتحاورة، بتجنب السماع أو الإنصات أو الإصغاء. منها مثلاً تسكيت الآخر أو السخرية من رأيه أو الاتفاق المسبق بين مجموعة صغيرة من المتحاورين على طرح رأي واحد ليظهر وكأنه صادر عن كثيرين، أو عدم طرح الموضوع أو الفكرة للنقاش أساساً والتحجج بعد ذلك بأن البقية غير مؤهلين للحوار! وبالنهاية من يرفض السماع والإنصات والإصغاء والوصول للنقاش المنطقي هو الخاسر الأكبر.
لا نفع من النقاش حول قواعد المنطق والمنهجية العلمية الضابطة للحوارات، إن لم يبد المتحاورون أولا الاستعداد الكامل للسماع والإنصات والإصغاء.
اقرأ أيضاً: أفكار لتطوير قانون الأحداث تحقيقاً للعدالة بالتعامل معهم