قصة هروب معلن .. 4 أيام في غابات الساحل لتفادي المجزرة
بكاء الأطفال .. صيحات الوعيد .. طنين الدرون .. كيف عاش الهاربون يوم المرأة العالمي!

في الثامن من آذار عام 2025 بينما احتفل العالم بيوم المرأة العالمي عشنا نحن السوريون في الساحل السوري مأساة حقيقية انتصار لسوري هنا وموت لسوري آخر هناك كان الوطن هو الخاسر.
سناك سوري _ خاص
قررنا أنا وعائلتي الهروب من قريتنا تاركين وراءنا كل ما كنا نعرفه كل ما بنيناه من ذكريات جميلة داخل جدران كانت يوماً ما تمثل الأمان اتجهنا نحو البراري المجهولة حيث لا شيء مضمون سوى الخوف لم نكن وحدنا فكثير من العائلات فعلت مثلنا هربا من المجازر الانتقامية التي انتشرت أخبارها المرعبة على وسائل التواصل الاجتماعي في الساحل السوري ووصلت إلى آذاننا من خلال الاتصالات المباشرة مع أصدقائنا وأقربائنا.
في الساعات الأولى من فجر يوم الثامن من آذار وبعد انتهاء وجبة السحور أمسكت أمي هاتفها لتطمئن على أحبائها لكن ما وجدته كان صادماً أسماء أقربائها من قرية “الصنوبر” مدرجة ضمن قائمة ضحايا مجزرة بشعة ارتكبتها جماعات مسلحة لبت دعوات الجهاد والنفير العام في الساحل السوري.
لم تكن هذه الخسارة الوحيدة فقد وصلنا نبأ مقتل صديق لأخي وهو مهندس زراعي يمتلك صيدلية زراعية قام عناصر إحدى الفصائل بسرقتها وتم قتله أمام زوجته وأطفاله.
توالى وصول الأخبار عن مجازر مروعة في القرية والقرى المحيطة مما دفعنا لتجهيز أنفسنا والاستعداد للهروب عبر حمل ما هو ضروري فقط.
أصوات الرصاص التي لم تتوقف طوال الليل كانت تقترب بشكل مخيف اتصلت أمي بخالتي المتزوجة في قرية مجاورة فسمعت عبر الهاتف أصوات رصاص عنيفة بالقرب من منزلها، خالتي التي تعاني من مرض يمنعها من المشي كانت تعيش مع زوجها في قرية الشير بعد أن فقدت ابنها البكر بسبب مضاعفات عملية جراحية، وجميع أبنائها الآخرين متزوجون ويعيشون في اللاذقية.
أخبرتنا خالتي أن المسلحين رشقوا منزلها بالرصاص وسرقوا سيارتهم وحاولوا اقتحام المنزل بالقوة من خلف صوتها سمعنا صراخ ابنة الجيران التي لجأت لمنزل خالتي خوفاً على نفسها، كانت في حالة هستيرية تصرخ باسم أخيها وتنوح عليه علمنا لاحقا أن المسلحين نهبوا ممتلكات عائلتها بما في ذلك هواتفهم وأجبروا شقيقها على المشي على أطراف قدميه وتقليد أصوات الحيوانات.
فقدت أمي في هذه القرية 20 فرداً من عائلة واحدة جميعهم أولاد خال أو أبنائهم، عائلات كاملة تمت تصفيتها وبقيت لأيام ممددة في شوارع القرية وعلى أطراف الطريق العام المؤدي لبلدة الحفة.
الهروب من الموت في يوم المرأة
من المفارقات المؤلمة أن نجد أنفسنا نهرب من الموت في يوم يحتفل فيه عالمياً بالمرأة رمز الحياة والأمل بينما كانت النساء في أنحاء العالم يحتفلن بإنجازاتهن كنا نحن النساء في الساحل السوري نحارب من أجل البقاء كان هذا التناقض مؤلم بشكل لا يوصف يذكرنا بمدى الظلم الذي نعيشه.
كنا 16 فرداً منهم 6 أطفال أكبرهم لم يتجاوز العشر سنوات وأصغرها لم يكمل الشهر الخامس جميعنا مدنيون لم نحمل السلاح في حياته.
حملنا معنا ما استطعنا من أغراض أساسية بطانيات وسائد ملابس سميكة وقليل من الطعام، أربعة أيام قضيناها في العراء بين بكاء الأطفال الذين التقطوا الخوف من أعيننا وأصوات الرصاص التي كانت تتردد في الأفق بين الحين والآخر وصيحات التكبير لكن أكثر ما كان يخيفنا هو سماع رصاصة واحدة أو رشقة سريعة فقط فقد كنا ندرك حينها أنه تم تصفية أحدهم أو عندما نصمع صوت الدرون في السماء فقد كانت تخيفنا من قذائفها.
أربعة أيام من البرد القارس في الليل والخوف من إشعال النار للتدفئة خشية أن تكون شعلة الحياة هذه سببا في إنهاء حياتنا.
بعد هروبنا وصلت عائلة قريبة لنا تسكن في قرية مجاورة إلى البراري التي كنا نختبئ فيها، وقابلت هناك صديقة كانت قد هربت هي الأخرى من بطش الفصائل المسلحة التي اجتاحت القرية.
أخبرتنا صديقتي أن أكثر من تسع فصائل مسلحة اقتحمت القرية الفصائل الثلاث الأولى نهبت منازل السكان آخذة الذهب النقود والأجهزة الكهربائية لكن بعد أن شهدوا عملية تصفية لجار قريب منهم هربوا خوفاً على أنفسهم.
استطاعت صديقتي الهروب من منزلها عبر باب خلفي مختبئة في حرش قريب من منزلها بقيت لأكثر من يوم ونصف وهي تلصق وجهها على الأرض برفقة بنات أخيها شاهدت خلالها قصص القتل المروع والسرقة صراخ الأمهات والزوجات لم تسلم ملابسهم على حبل الغسيل من الرصاص أخبرتنا عن الأمهات اللواتي فقدن أولادهم، الأطفال الذين شاهدوا عمليات القتل وصراخهم وبكاءهم الذي شق السماء.
قرى على الطريق
بعد أن دخلت إحدى الفصائل قريتنا البعيدة عن الأوتوستراد الدولي وبدأت بإطلاق النار بشكل عشوائي على جميع المنازل والمحال على طرفي الطريق مع صيحات التكبير والصراخ والوعيد بالعودة لاحقاً للقرية وإطلاق الشتائم يومها هرب جميع من بقوا في القرية في الأيام الماضية فلا أحد يريد أن يقع في يد أي فصيل الجميع، مستعد للتضحية بكل ما يمتلك مقابل البقاء على قيد الحياة وحماية عائلته من بطش الفصائل التي أسمتها السلطات المؤقتة فصائل منفلتة.
أطفالنا كانوا الضحايا الأكبر عيونهم البريئة كانت تعكس الخوف الذي عشناه، بكاؤهم المستمر كان يمزق قلوبنا كنا نحاول تهدئتهم لكننا كنا أنفسنا منهارين.
الأعصاب كانت مشدودة إلى أقصى حد بين بكاء أمي وأختي على أقرباء فقدناهم وأصدقاء يطلبون النجدة زوجات إخوتي اللواتي سكن الخوف عيونهن كن ينظرن إلى أطفالهن بعيون جامدة تفقد بريقها مع كل خبر جديد كنا نضطر لقطع مسافات طويلة للحصول على شبكة اتصال ضعيفة لنعرف آخر الأخبار أو لنطمئن أحباءنا أننا ما زلنا على قيد الحياة.
البحث عن شبكة بين الموت
في إحدى المرات كدت أكون ضحية لإطلاق نار عشوائي بينما كنت أحاول الحصول على نقطة تغطية في الأراضي الزراعية، الرصاصات كانت تحوم حولي والصوت كان أشبه بصوت نحلة كبيرة تحاول أن تلسعني، لن أنسى صراخ أهلي طالبين مني أن أختبئ ولا صوت أخي الذي نادى بأعلى صوته محذرا إياي من شيء في السماء كنت أظنه طائرة درون نظرت للسماء كانت زرقاء صافية لكن كان الصوت لرصاص يريد أن ينهي حياتي
الحياة في البراري لم تكن كما في رحلات التخييم التي اعتاد أصدقائي القيام بها ولا كما في الأفلام التي تظهر الناس مجتمعين حول النار كانت حياة مليئة بالخوف والحرمان من أدنى مقومات الحياة من ماء وخبز حيث حتى قضاء الحاجة كان تحديا كبيرا.
أربعة أيام قالت أمي لن تحسبهم من أعمارنا أربعة أيام من الرعب جعلتنا ننسى معنى الحياة لكنها أيضا علمتنا معنى الصمود في قلب المأساة وجدنا قوة لم نكن نعرف أننا نمتلكها قوة جعلتنا نستمر رغم كل شيء.
أتساءل كم من الأرواح يجب أن تزهق وكم من الدموع يجب أن تذرف قبل أن تصحو الإنسانية بداخل كل سوري
هذه ليست مجرد قصة هروب بل قصة إنسان يحاول أن يجد لنفسه ولأسرته مكاناً آمناً في بلد مليء بالخوف قصة تذكرنا بأن الحرب لا تأخذ فقط الأرواح بل تاخذ أيضاً الأحلام والكرامة الإنسانية التي يمكن أن تتحول إلى أمنية بعيدة المنال في ظل الصراعات.
هذه القصة هي دعوة للسوريين لسماع أصوات الذين يعيشون في ظل المحرقة دعوة للتفكير في معاناة الأطفال الذين يكبرون وهم لا يعرفون سوى الخوف دعوة للعمل من أجل وطن أكثر إنسانية.