في اليوم العالمي للحمير .. من كسر قلب حمارتنا؟
الحمير تشبه البشر فهي غالباً تكسر من تحبهم
في الشارع المكتظ بالبشر تزدحم الأنفاس على طول الطريق الواصل من محطة المترو إلى قلعة المدينة القديمة. يرقص الناس كعادتهم كالشقلبان احتفالاً بكرنفال جديد.
سناك سوري _ شاهر جوهر
هذه عادة مدينة مجنونة وباردة مثل “نورنبيرغ” إحدى أعمال بافاريا الجنوبية. أما هذا الكرنفال فيعج بالأطفال الذين يحملون فوانيسهم فيطوفون بها في صفوف متراتبة لينيروا شوارع المدينة. يتقدمهم حمار في منتصف العمر تقوده فتاة عشرينية حلوة ترتدي فستاناً طويلاً من قطعة واحدة.
وعلى أنغام كونشيرتو الكمان لـ”مندلسون”. على أغلب الظن، كَست وجه ذاك الحمار ملامح الأبهة والوقار، كما بانت على ردفيه مظاهر الراحة والترف. فهما على ما يبدو لم يُصفعا يوماً بطغيان. مُشطت معرفاته في عقب ذيله وعنقه على شكل جدائل صغيرة كما أُسند سرج مزركش على ظهره فبدا كحصان عربي يافع لا كحمار.
جلستُ على حافة الطريق في مدينة الإسفلت هذه أراهن على بركة هذا الحمار. فاستذكرت حمير سوريا المعذبة في عيدها الأخير الذي يصادف هذا الشهر.
قصة حب بين حمارين
قبل عشرين عاماً تقريباً زار الحي حمار غريب، صادف مجيئه زيارة المحافظ للبلدة لتدشين رأسه على دوّارها بعد أن اكتمل بناؤه. كان أخضر، شارد ويجوس بحوافره كروم الجيران، (أقصد الحمار). لكنه اعتاد أكثر أن يأكل ما يأكل من زروع “أبو عايد” من الخيار والبندورة، وما إن ينتهي حتى يدعك جسده بلؤم .فيما تبقى منها قبل أن يغادر. وحين يرغب مالك المزرعة اعتقاله يطلق حوافره مبتعداً، وغالباً ما يلزم استعمال قائمتيه الخلفيتين لرفس كل من يحاول الاقتراب منه، على هذا استحق لقب “المؤذي”.
وفي ذات الوقت وفي نفس المكان لكن على بُعد زقاقين . كان “أبو عايد” يمتلك حمارة بيضاء لطيفة وكأني أراها الآن، شابة وتمتلك تلك المسكينة دَّبَرة كبيرة على ظهرها من أثر السرج وعدة دَّبَرات موزعات على الرُكب والمؤخرة .بفعل مشقات معيشتها.
قضت سني عمرها تسوس ماشيته وتنقل الماء من نبع القرية وتحمل العيدان وتفلح الأرض وتطحن الحبوب. وكل يوم جمعة يُثقل “أبو عايد” مؤخرته على ظهرها للذهاب بها إلى السوق. ومن ثم إلى الصلاة في المسجد، لهذا كان يربطها عند دوّار الحي قرب رأس المحافظ لحين عودته. وما إن يغادر حتى يسارع صبيان الحي المتلصصون لسرقتها، يلعبون عليها، يركبونها بشكل جماعي ثم يعذبونها برذالة وبلا سبب. وحينما يَقُتلها التعب يُرجعها الصبية إلى الدوّار منهكة بعد أن تكاثروا على اغتصابها.
وفي إحدى جولاته في ربيع ذاك العام اقترب الحمار “المؤذي” من الدوّار. وهناك دار حول حمارة أبو عايد حيث التقط عدواها. ومنذ ذلك الحين كان يصارع هواه للاقتراب منها بطريقة باتت ترهقه وترهق مالكها. على هذا يقال أن الحمير ليست بغبية، لكنها عنيدة. ففي آخر مرة حاول ملاطفتها كسر أحد ساقيها عن غير قصد، فالحمير تشبهنا نحن البشر، فهي غالباً ما تكسر من تحبهم. على هذا فليس الحمار لدى الريفي سوى بقوائمه، فتخلى عنها مالكها. إذ تركها في شعاب أحد الوديان تصارع في البقاء حتى لا تتمكن بساقها الكسيرة من صعود المنحدر والرجوع إلى حظيرته، فما النفع من إطعام حمارة لا نفع مرجو منها.
تعهد “أبو عايد” عقاب ذاك الحمار، إذ من عادة العرب إن عفت عن حمار قامت بخصيه. فبيّتَ له في ليل ما بيّت، وحين أمسكه حبسه لأسبوع وقد ربط خصيتيه بسلك معدني حتى تنصلتا، ثم عصب عينيه بعصابة وتركه قرب جرف قاسٍ وهو يعلم أنه سيساق إلى المنحدر كرهاً. ولأيام قال صبيان الحي أنهم سمعوا أنينه المتوجع ونهيقه المتعب بين حجارة المنحدر إلى أن التهمته الكلاب حيّاً.
مجزرة جديدة
مرت خمسة عشر عاماً على تلك المذبحة. وبعد سيطرة مسلحي “داعش” على البلدة، أسروا أغلب شبان القرية ثم تم تجميعهم عند الدوّار، وقد حُطِّم رأس المحافظ وزُرعت مكانه جثة وفوق منها راية الفصيل . ثم سيق بعدها الرجال كحُمر مجنزة إلى مكان مجهول، فانقطعت أخبارهم إلى أن تسلل إلى القرية رجل غريب، فأذاع بين الناس سرّاً عن مكان عشرات الجثث قد أعدمها الفصيل في منحدر ضيق أسفل وادٍ. ومن بين تلك الجثث عرف الناس جثة “أبو عايد” مطمّشة ومعدمة وقد تناهشتها وحوش الوادي.
من العبودية، للتحرر، للإبادة
ليس ببعيد كانت قرى الجنوب السوري تغص بالحمير الشاردة. أينما ولّيت وجهك كنت تجد حماراً يولد وآخر يخصى. لكن مع دخول القرى في المخطط التنظيمي ومد خطوط الهاتف وشبكات المياه وتوزيع الجرارات اليابانية على الفلاحين. نهاية التسعينات، أصبح نقل الماء وحرث الأرض ودرس الحنطة خارج اختصاص الحمير. لهذا تُركت حرة وتحررت من عبوديتها بعد مئات السنين من الاستعباد. وهو التحرر الوحيد الذي ساهمت في صياغته حكومات بلادنا حتى ذاك الحين، فراحت تأكل وتنام وتمارس الجنس كما يحلو لها.
في الحي الذي كنت أسكنه في تلك القرية جنوب البلاد. اتخذت الحمير الشاردة من فناء البلدية المُعشب مقيلاً لها، حتى أنك لتجد مئة حمار مجتمع كل يوم. فيملؤوا الأرجاء بالنهيق في جموع غفيرة، ولما أن الترف مؤذن بالظلم و “الظلم مؤذن بخراب العمران” صارت تلك الأمة من الأمم حين تجوع تغير أفواجاً على زروع الفلاحين. فتثير الفوضى والخراب، أما الذكور منهم فكانوا يجلبون الفوضى أكثر من الإناث حين تعجبهم حمارة أحد مُلاك الفلاحين. وإن حصل تقع مذبحة عظيمة تخلق فوضى كبيرة.
تزامنت تلك الطفرة في العشرية الأولى مع موافقة الحكومة على استيراد لحوم الجواميس من “مصر”، على هذا أخذت تُغزى عزب الحمير بشاحنات غريبة ليتم خطفها فتساق إلى مكان مجهول. ليتبين لاحقاً أنها كانت ضحية صفقة كبيرة، تباع كلحوم جواميس لدى شبكة كبرى من القصّابين في الجنوب.
لم تكن الفضيحة في وقتها لتزعج السكان أكثر من تكاثر الحمير. الذين أكملوا الفضيحة بخطف ماتبقى منها بشاحناتهم وإعدامها بها بشكل جماعي حيّة من أعلى المنحدرات.