في الذكرى السابعة لاغتياله … خالد الأسعد حمى آثار تدمر بروحه
خالد الأسعد... مات واقفاً كنخيل تدمر وأعمدتها التاريخية
لعقود من الزمن كرّس “خالد الأسعد”، حياته لاكتشاف الآثار السورية القديمة. وأصبحت علاقته بالآثار علاقة صداقة متينة لا يفصلها شيء حتى الموت. حتى أنه فارق الحياة بين آثار مدينته “تدمر” وهو يدافع عنها لآخر لحظة في حياته.
سناك سوري – غرام زينو
ولد “الأسعد” في 1 كانون الأول 1934 في مدينة “تدمر” بريف “حمص” التي عاش وكبر فيها. وحصل على إجازة بـ “التاريخ” من جامعة “دمشق”. ليبدأ رحلته الفعلية في عالم الآثار مع بداية ستينيات القرن الماضي.
شغل العالم السوري منصب رئيس دائرة الحفريات في المديرية العامة للآثار والمتاحف، في وزارة الثقافة بين عامي 1962 و1963. وبعدها أصبح مدير آثار ومتاحف تدمر حتى عام 2003.
هذه السنوات حملت لـ “الأسعد” الكثير من الإنجازات العظيمة التي سجلّها التاريخ له ولـ “سوريا”. حيث أصدر كتاب “مرحباً بكم في تدمر: الدليل السياحي الأول عن تدمر” ونُشر بخمس لغات وذلك في عام 1966. وفي العام ذاته وضع مخطوطاً بعنوان “قبائل البدو في منطقة تدمر”، ومخطوط “النبات والبدو في قصر الحير الشرقي”.
اقرأ أيضاً: انهض يا خالد الأسعد لترى كيف ينقبون عن آثار تدمر
ساهم “الأسعد” في اكتشاف القسم الأكبر من “الشارع الطويل” و”ساحة المصلبة” (التترابيل) بالإضافة لبعض المدافن والمغاور والمقبرة البيزنطية في حديقة متحف “تدمر”. كما اكتشف مدفن “بريكي بن أمريشا”.وعثر على منحوتة “حسناء تدمر”. وساهم بإعادة بناء أكثر من 400 عمود كامل من أروقة “الشارع الطويل”، ومعبد “بعل شمين” ومعبد “اللات” وأعمدة ومنصة وأدراج المسرح.
الإنسان بلا تاريخ إنسان بلا مستقبل خالد الأسعد
لم تتوقف إنجازات “الأسعد” هنا. بل كان له دور بإعادة بناء المصلبة وأعمدتها الـ 16 الغرانيتية لمدخل حمامات “زنوبيا” ومحراب “بعل شمين”. وجدران وواجهات السور الشمالي للمدينة، إضافة إلى ترميم أجزاء كبيرة من أسوار وقاعات وأبراج.
وكان له العديد من المؤلفات كـ “قصر الحير الشرقي: «مدينة في الصحراء” عام 1978، و”سوريا في العهد البيزنطي والإسلامي” في 1993، و”زنوبيا ملكة تدمر والشرق” نُشر باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والبولندية عام 2006، والكثير من المخططات والكتب التي لا تزال حاضرة حتى يومنا هذا لتذّكرنا بتاريخ “سوريا” القديم».
الأسعد وحّد السوريين
عام 2015 كان موعد “سوريا” و”تدمر” مع فقدان أهم أبنائها والذي أوجع رحيله قلوب السوريين، في ظل الحرب التي قسّمت ظهر البلاد وأهلها. كان “الأسعد” الحاضر الغائب الذي جمع غالبية السوريين حزناً على رحيله. وتقديراً لمسيرته وألماً على طريقة إنهاء حياته على يد المتطرفين.
حكاية مابعد هجوم داعش
أثناء هجوم تنظيم “داعش” على مدينة “تدمر” الأثرية كان “خالد الأسعد”، في منزله القريب من قلعه “تدمر” والمطل على المنطقة الأثرية. يقول ابنه “طارق الأسعد” في حديثه مع سناك سوري: «كان الهجوم من الجهة الشمالية الشرقية ومن الغرب خلف القلعة وقنص على الطريق كي لا يتمكن أحد من الخروج باتجاه “حمص” أو “دمشق”».
اقرأ أيضاً: بعد أن أعدمه داعش.. فيلم يوثق حياة عالم الآثار السوري “خالد الأسعد”
وأضاف “طارق”: «طلبنا من والدي الخروج من تدمر لكنه رفض رفضاً قاطعاً. ولكن استطعنا إقناعه بالذهاب الى منزل خالي “أسعد الأسعد”. وذلك بعد ثلاثة أيام من احتدام المعركة والضرب بالهاون والرشاشات الثقيلة وسيطرتهم على الحي الشمالي بـ “تدمر” وعلى القلعة».
بعد سيطرة “داعش” على المنطقة تم قطع الاتصالات كافة عن المدينة، وكانت طريقة التواصل هي الانتظار بقلوب يملؤها الحزن واليقين بأن “تدمر” لن يرحمها المخربون وفق حديثه، ليتكلم معه شقيقه “عيسى” ويخبره بأن والده معتقل لدى “داعش” منذ 23 تموز 2015 وبقيت العائلة تتأمل بوعود بإطلاق سراحه بأقرب وقت حتى أكمل نحو شهر في معتقلات التنظيم المتشدد.
بعد 28 يوماً من الاعتقال
وفي تمام اليوم الـ 28 للاعتقال قام مسلحو “داعش” بإحضاره من فندق “تدمر” “الميريديان” إلى ساحة “تدمر” الرئيسية. يضيف “طارق” بأن والده طلب منهم طلباً أخيراً وهو أن يزور المكان الذي عاش فيه وأفنى عمره في إعماره وهو المتحف. وكان له ذلك. ليتفاجأ “الأسعد” بأن المتحف هو المحكمة التي يوجد فيها القاضي الذي حكم عليه بالموت. وعند صلاة الظهر طوّقوا كافه المداخل والمخارج وأغلقوها بالسلاح والعتاد خوفاً من ردة فعل أهل “تدمر”:«وحين خروج المصلين من المسجد جمعوهم وقاموا بتنفيذ العمل الشنيع بحق والدي الشهيد».
أنا لا أركع إلا لله أموت واقفاً كنخيل تدمر وأعمدتها الشامخة، نخيل تدمر لا ينحني خالد الأسعد
اقرأ أيضاً: حارس الأسرار التدمرية الذي أعدمه “داعش” ولم تعترف الحكومة بشهادته!
وأضاف “الأسعد”: «طلبوا من أبي أن يجثو على قدميه لكنه رفض. وقال لهم كلمته الشهيرة أنا لا أركع إلا لله أموت واقفاً كنخيل تدمر وأعمدتها الشامخة، نخيل تدمر لا ينحني»، وختم “الابن” : «بعد رحيل الأب تأتيك المواقف برسالة مبطنة، رحل من هو أعمق حباً الأصدق قولاً والأكثر خوفاً وحرصاً».
اغتيل “الأسعد” لأنه رفض أن ينطق بأي معلومة تساعد “داعش” بالوصول إلى آثار “تدمر” الثمينة، ونعته جميع الصحف المحلية والعربية والعالمية، وأعربت حينها المديرة العامة لـ “اليونسكو” “إيرينا بوكوفا” عن حزنها وغضبها على حد سواء عندما علمت بالقتل الوحشي لـ “خالد الأسعد” الذي أشرف على الآثار في “تدمر” المصنفة على قوائم التراث العالمي لـ “اليونسكو”.
هنا حيث كرس حياته، وكشف عن تاريخ تدمر الثمين وتفسيره حتى نتمكن من التعلم من هذه المدينة العظيمة التي كانت مفترق طرق للعالم القديم. سيعيش عمله بعيداً عن متناول هؤلاء المتطرفين، لقد قتلوا رجلاً عظيماً، لكنهم لن يسكتوا التاريخ أبداً المديرة العامة لليونسكو يوكوفا
وتابعت “بوكوفا”: «هنا حيث كرس حياته، وكشف عن تاريخ تدمر الثمين وتفسيره حتى نتمكن من التعلم من هذه المدينة العظيمة التي كانت مفترق طرق للعالم القديم. سيعيش عمله بعيداً عن متناول هؤلاء المتطرفين، لقد قتلوا رجلاً عظيماً، لكنهم لن يسكتوا التاريخ أبداً».
حصل “خالد الأسعد” على وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة من رئاسة الجمهورية السورية، ووسام الاستحقاق برتبة فارس من رئاسة الجمهورية الفرنسية، ووسام الاستحقاق برتبة فارس من رئيس “بولونيا” ووسام الاستحقاق من رئيس الجمهورية التونسية.
“خالد الأسعد” الذي قدّم حياته لآثار بلده ومدينته، أب لـ 9 أولاد وبنات وهو الذي أسمى ابنته “زنوبيا”، دليل على تعلقه الكبير برموز “تدمر”، خلّد التاريخ اسمه كواحد من أبرز الباحثين الأثريين في “سوريا” والمدافعين عن حضارتها.