الرئيسيةرأي وتحليل

فرخ البط عوام – ناجي سعيد

الإختلاف حقّ مشروع لكنّي سميّته “حاجزاً” بسبب عدم استساغة المجتمع له.

سناك سوري – ناجي سعيد

ذهبت لزيارة الوالد ذي الثامنة والثمانين (أطال الله بعمره) بعد عملية جراحية أُجريت له إثر تعرّضه “لجلطة”، والتقيت هناك أخي، الذي خاض تجربة نضالية طويلة، متنقّلاً من تجربة مع حزب يساري إلى خوض تجارب نقابية، وهذا مؤشّر على إيمانه بالقيم الإنسانية التي يحملها أي مناضل حقيقي يخوض تجربة الدفاع عن حق العمّال المقهورين المظلومين من الطبقة الحاكمة الفاسدة في بلدنا الجميل الذي نُحبّ. وكلّ إنسان له طريقته في ترجمة هذا الحب.
وقد تعلّمت من هذا الأخ الكثير من القيم التي أؤمن بها الآن، بالإضافة إلى تكوين ثقافة لا تزال في طور التكوين. لكن من المؤكّد بأنها ثقافة إنسانية تتّسم باتّباع الحق، والإيمان بالعدالة. ومن يؤمن بهذه القيم، لابدّ له من تحمّل مشقّة سلوك طريق تحقيقها. وغالبًا ما يصطدم بحاجز الإختلاف عن الآخرين، والإختلاف حقّ مشروع لكنّي سميّته “حاجزًا” بسبب عدم استساغة المجتمع له.
نعم فقد تعرّضنا للإضطهاد -كعائلة- بسبب الإختلاف. والإختلاف هنا يقتصر على عدم الإيمان بأفكار ومعتقدات وسلوك الجماعة المحيطة. وتحمّلنا هذا الإضطهاد، كثمن للإختلاف الذي دفعناه كعائلة مختلفة عن بيئتها، ويدفع الثمن أيضًا كُلّ مختلف عن محيط يعيش فيه. للأسف، نحن في مجتمع منغَلِق ولا يتقبّل الإختلاف بسهولة. فهو كما ذكرت -بالنسبة للمجتمع- مُختص بعدم الإنتماء إلى الفئة المسيطرة المهيمنة، وليس بالضرورة أن تلبس رداءًا مختلفاً ليمقتك المجتمع. فالتهم الآتية من المجتمع “لبّيسة” وتناسب كل من يفكّر بأن يكون مختلفًا عن الجماعة.
وبغضّ النظر عن التربية الخاطئة، كمصدر لعدم تقبّل الإختلاف، فما يهمّني هو إنتشار هذا المفهوم السلبي وفرض نفسه كثقافة مجتمع. فالمثل الشعبي الذي يدحض التجارب الجديدة التي تُشجّع على قبول كل ما هو جديد يتجسّد في: “من جرّب مجرّب كان عقله مخرّب”، والمثل الآخر الذي لا يشجّع الناس على قبول الإختلاف: “زيوان بلادي ولا القمح الصليبي”، ولو أن تفسير المثل كان تشجيعًا للتمسّك بالوطن وعدم قبول المحتلّ الغريب، فأصبح بطريقة غير مباشرة يدعو الناس للمكوث في المنطقة الآمنة (كومفورت زون) ولا تُشجّع المرء على التجديد والتغيير الذي يساعد الإنسان على قبول الإختلاف.
ومن الأمثلة التي أحب ذكرها والتي تميل الكفّة لصالح البقاء في المنطقة الآمنة، هي “العادة” فقد يعتاد الإنسان على ملء خزّان سيارته وقوداً من “محطّة بنزين” معيّنة، والهدف يكون ملء السيارة بالوقود فقط لتلبية حاجته في التنقّل، وعادته هنا تجعله أحياناً يخاطر بأن يفرغ خزّان سيارته إلى أن يصل إلى المحطة المنشودة. مع يقينه التام بأن المحطّات كافةً تؤدّي المهمة.
وفي لبنان قد يخطر ببال أحدهم تبرير ذلك بأن “بنزين” هذه المحطّة نظيف!! نعم لكنّ المثل الذي ذكرته لا يؤطّر مكانيًّا وزمانيًّا. والعبرة التي أرومها، هي أن طباع الإنسان قد تكون على علاقة وطيدة متبادلة مع العادة، وقد تتضارب أحيانًا مع منظومة القيم التي يكتسبها المرء خلال تجربته الحياتية.
فقد يكون شخصٌ ما مؤمن بالقيم الإنسانية لا بل شديد الإيمان بها، ولكنّ طباعه تمنعه من مساعدة الآخرين بسبب يأسه من افتراض إيجابية وطيبة الناس التي تؤدي إلى خير ومصلحة المجتمع. نعم ولكنّ هذه الطباع ما هو مصدرها؟ وهل من مُغذّي لها خارج إطار منظومة القيم الحريصة على تربية قيمية إنسانية تدحض جميع المعيقات الشخصية حتى لو تأصّلت طباعًا وتعشّشت في أركان وزوايا الشخصية التي تُعكس الهوية الفردية وتكوّن مع قريناتها من هويّات فرديّة “هويّةً جماعية” تعكس صورة طيّبة جميلة عن المجتمع.

اقرأ أيضاً: القناعة كنزُ فنى وولَّى زمنه – ناجي سعيد

وليس بالضرورة أن يصل المُجتمع إلى مثاليّة أفلاطون، فالمطلوب صفات إجتماعية تنبع من مجتمع إعتاد على التضامن والتآزر، وما لا يعرفه الناس بأن سبب “الدبكة” (رقص فولكلوري لبناني) أساسه فكرة “العونة”، وتفسير هذا أن في المجتمع الزراعي كان اللبناني، بعد عملية رش بذور القمح في أرضه، ولإتمام غرس البذور في التراب (وهذه مرحلة في زراعة القمح) كان المزارع يدعو أهل القرية لإقامة حلقات الدبكة، وهي معروفة الخطوات مع “الخبطات” على أرض الحقل، فتُرصّ البذور، لتتحوّل عملية العمل الزراعي إلى أمثولة في الفن الشعبي. فتعمّ البهجة، أوّلاً عند الفلاّح الذي عاونه أهل قريته على إنجاز عمل يقتات منه وعائلته، ثانيًا يبتهج الناس بالإحتفال الفني التقليدي الذي يشدّ أواصر علاقات الناس بعضها ببعض وهذا في سبيل تعزيز مفهوم المواطنة. وكمثل آخر على العونة، كانت البيوت آنذاك تبنى بمادة “اللِبن” وهذه المادة طينية تحتاج كي تقسو إلى “رصّ” وضغط، فكان الناس يُعينون أي شخص يبني بيته ويحتاج إلى “رصّ” السقف، فيدعو الجيران للدبكة على السطح لأداء مهمّة العونة.
والخلاصة هنا إذًا، كيفية التقاء العادات والتقاليد الإجتماعية لمحاكاة مفهوم الطيبة وانعكاسها على الطبائع الشخصية، فـ “فرخ البطّ عوّام” لم تقصد ولن تقصد بأن فرخ البط ليكون عوّامًا لابدّ له أن يعوم في العنف والشرّ والأذيّة للآخرين. يقول فلاسفة اللاعنف الإنسان طبيعته لاعنفية، وليس هناك رسالة دينية عنيفة، ومن يريد القول بأن الدين الإسلامي عنيف وخاض الكثير من الحروب والفتوحات لنشر الإسلام، نعم لكنّه لم يفرض على احد إتّباعه، وقد كان النبي قبل أن يخوض حربًا مع مجتمع ما أو قبيلة، كان يُرسل موفدًا ويقول له:

“أقرئهم السلام”، أي أعرض عليهم أن نبشّرهم برسالتنا سلميًّا وبلا عنف.

اقرأ أيضاً: لطالما فكرت أن أكون لاعنفياً – ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى