عن فيروز وقصة الحب التي جمعت جارة القمر بجوار بلادها
هل تتحقق أغنية فيروز ويغني السوريين "راجعين ياهوى راجعين" بطريق عودتهم
في الحادي والعشرين من نوفمبر عام “1935” بزغت شمس “نهاد حداد” في جبل الأرز في قضاء الشوف اللبنانية. دون أن يدري الأبوان “وديع” و”ليزا” أنّ الطفلة التي ستحمل فيما بعد اسم “فيروز”. ستصبح أيقونة العصر وصوتاً عابراً للحدود والطوائف. وأن علاقة ستنشأ بين فيروز والشام كما كل الأوطان ستمنحها في قلب كل بيت عربي هوية وجنسية تفوق كل الاعتبارات.
سناك سوري- ميس الريم شحرور
في السادسة من العمر بدأ الصوت الذهبي رحلته مع الموسيقا والغناء. الرحلة التي ستجعل منها فيما بعد محطّ ذهول الملحنين والنقاد. وتحوّلها إلى مادة أدبية وثقافية حيّرت الشعراء والكتّاب. إلى الحدّ الذي دفع بعضهم للحيرة والدهشة. وطرح أسئلة لتبقى بلا أجوبة. ولعلّ الشاعر اللبناني الراحل “أنسي الحاج” أبرز من كتب عن فيروز، وهنا نستعيد جزءاً من نص كتبه في آذار عام 1970 حمل عنوان “أحبّها بإرهاب”.
إذ قال حينها: «في الكلام عن فيروز ألف شهرزاد لا ينتهي. وهل ينتهي الذهول أمام الأسرار؟ بعض سرّها التقاء الطموح والقناعة، والحذر والطفولة، والغموض والشفافية، والشمس والقمر. سرّ انصهار اللغز والبساطة. سرّ كلّي محصَّن مغْلق كنظام متراصّ، لا نافذةَ له على العالم إلّا الفنّ. كلّ الفنّانين يعيشون حياتهم إلى جانب عملهم الفنيّ إلّا فيروز: حياتها هي فنّها، تتنسّك له أكثر من الرهبان وتتحمّل في سبيله أكثر ممّا يتحمّل القدّيسون. لقد خطفها صوتُها إليه قبل أن يخطفنا صوتُها».
بين فيروز والأوطان سرّ مركزه “دمشق”
وقّعت “فيروز” وثيقة ارتباط مع الأوطان بعيداً عن الغناء للأشخاص. فحافظت بذلك على علاقة استثنائية لم تكدّر صفوها انتماءات سياسية ولا غناء في بلاط الحكام.
لكنّ علاقة فيروز بالشام كانت محطّ أنظار الجماهير التي اعتبرت أن بين فيروز ودمشق حبّاً عذريّاً تجلّى في باقة من أجمل الأغاني التي قيلت في الشام. ومنها “سائليني يا شآم” والتي جاءت آنذاك ردّاً على خطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. الذي خطب بالجماهير من على شرفة “قصر المهاجرين” قائلاً ما معناه: “إنّه سيدخل الشام التاريخ”.
الأمر الذي استفزّ الشاعر الراحل “سعيد عقل” فاتصل بالرحابنة لانتقاء أبيات من قصيدته تلك. لتغنى بصوت “جارة القمر”. مروراً بـ”يا شام عاد الصيف”، “شآم أهلك أحبابي”، “أحب دمشق”، “نسمت من صوب سوريا الجنوب”، “قرأت مجدك” و “مرّ بي”. وغيرها الكثير من أغانٍ خلّدت دمشق.
وخلال السنوات الطويلة من أوج العطاء لم تغب السيدة “فيروز” عن معرض دمشق الدولي. فانتظرها السوريون على مدار سنوات طويلة ليستمعوا إلى ما حملته من أغانٍ للحبيبة دمشق. ولم تخيّب السيدة ظنهم فقد حملت بيروت في صوتها وفي نغمها وجاءت إلى دمشق، لتحمّلها الأخيرة السيف في القلم.
لكنّ في “23 أيلول” عام “1958” صبّت الجماهير السورية جام غضبها على نجمتهم التي اعتذرت عن إحياء حفلها ضمن فعاليات معرض دمشق الدولي. بسبب إصابة طفلها “هلي” بالتهاب في السحايا. وفي عام 2022 أي بعد “64 عاماً” على الحادثة عاد وذكر المؤرخ “سامي المبيض” تفاصيل الحادثة بعدما ظهرت السيدة في صورة تجمعها وولدها المقعد “هلي” نشرتها آنذاك ابنتها ريما على حسابها الشخصي على فيسبوك.
ولم يقتصر حبّ فيروز لدمشق على أغنيات تقدّمها بشكل دوري. بل تجاوز ذلك إلى لقاءات، عبّرت فيها السيدة فيروز عن حبها للبلاد، دون أن تنكر أنها تربت في كنف سوريا على الحب الحقيقي الأصيل. معتبرة أن سوريا هي بلدها الثاني وأن زيارة الشام في وقت معين سنوياً بات تقليداً تعطي فيه فيروز للشام “أحسن ما عندها”.
سوريا هي بلدها الثاني و زيارة الشام في وقت معين سنوياً بات تقليداً تعطي فيه فيروز للشام “أحسن ما عندها”
لفيروز في عيدها
تعيش فيروز وإن طال غيابها عن الشام في الأزقة والحدائق والبيوت. وتؤنس صباحات الطلاب في جامعاتهم وقبل الذهاب إلى مدارسهم. كما لا تغيب عن صبحيات الجيران، وصرخات الباعة الجوالين الذين يبحثون عن رزقهم على صوتها متفائلين بنهارات أقل شقاء. حتى تكاد تحسب أن لفيروز بيوت على عدد قلوب السوريين الذين سموا مقاهيهم بأسماء أغانيها. وحملوا أبناءهم أسماء مسرحياتها وشخوصها.
من “ميس الريم” إلى “زاد الخير” ، مروراً بـ”بيسان” الأغنية والمدينة التي عرفوها أكثر من خلال صوتها الملائكي. وحتى في الزمن الصعب يوم كانت أصوات المدافع تهزّ أركان البلاد، كان صوت “فيروز” يأتي من الأبواب الصغيرة في الحارات العتيقة من المقاهي التي وجدت أن ترتيلة تغنيها “فيروز” تحمل معها شفاء لقلوبهم المتعبة. فباتوا يرددون بإيمان أكبر “يا ساكن العالي، طل من العالي، عينك علينا على أراضينا ، رجع أخوتنا وأهالينا”.
فهل يستجيب الله ويعيد الأحبة الذين تشردوا في بقاع الأرض ليحتفلوا بعيد ميلاد “عصفورة الشجن” على أرض الوطن على وقع أغنية “راجعين يا هوى راجعين؟!” يوماً ما.