الرئيسيةيوميات مواطن

عن الدراهم التي يبصقها الصراف في وجهي وملذاتي الشخصية

طعم الموز لم يتغير على الإطلاق....

ما تزال الدريهمات التي تبصقها آلة الصرافة في وجهه، شبه ثابتة منذ بداية الحرب، و هو الموظف البسيط صاحب (الدخل المحسود)، من النوع الذي يطلقون عليه اسم (النكرة) و الذي لا يملك سبيلا إلى الرشاوى و لا إلى نهب المال العام، مع أن مصاريفه تضاعفت منذ ذلك الحين عدة عشرات من المرات.

سناك سوري-حسين خليل

وما تزال رحلته الشهرية ليقبض راتبه من (بيت مال العاملين)، بنفس موعدها مع بداية كل شهر حيث (يمتطي) دراجته النارية الشبيهة بهيكل نازي قديم هابطاً من جرود قرية (العنازة) نحو مدينة (بانياس)، ليقنص الثمانين ألفاً لكنه هذه المرة كان عازماً على وضع الندالة نصب عينيه و إدارة (الدان الطرشا) لكل الدائنين في فضائه ذي الراية البيضاء. وصرخات أطفاله الجائعين.

كان يريد أن يصرف الراتب في هذه المرة على (ملذاته الشخصية)، حقيقة إنه لا يعرف معناها و لكنه سمعها ذات ثلاثاء من صاحب سوابق في برنامج (الشرطة في خدمة الشعب)، انطلق مع أحلامه الوردية قاصدا سوق المدينة و كان أول ما استوقفه متجر كان قد عرض معاطف الشتاء التي توحي بالدفء و الطمأنينة، أقل رقم لمعطف (يحترم نفسه) هو تسعون ألفاً.

مقالات ذات صلة

كان يعلم أن برد “التشارين” سينخر عظامه عما قريب، و أن بعض المساومة ستمكنه من الحصول عليه، لكن شبح (أكاكي أكاليفيتش) كان يطارده منذ أن قرأ رواية (المعطف) و أن لعنة (غوغول) هذه المرة ستأتيه بنسخة مطورة عما حصل مع ذلك الأوكراني الفقير، سيوقفه اللصوص و يسرقون معطفه و دراجته و جهازه الخلوي الرخيص حتى، و سيضربونه ضرباً مبرحاً، و سيذهب ليشتكي فيقوم (أبو نادر سيدي) بجلده على خلفية (من أين لك هذا و أنت ابن الأفقرين).

ثم إنه يمتلك (فلتا) يلبسه للموسم التاسع على التوالي فلماذا هذه (البحترة)، مشى قليلا ليستوقفه مجدداً مطعم شعبي كبير أراد أن يدخل و يطلب عددا كبيرا من عرائس (الشاورما) التي تشكل له عقدة منذ نعومة الأظفار، ثم إنه تراجع في اللحظة الأخيرة.. مخاطبا نفسه: “ثمانون ألف؟، لن أشبع حتى لو تناولت صاحب المطعم شخصياً”.

هناك جوع قديم لا يعلم به سوى الأزل القديم.. كان يريد شيئا مميزاً أكثر من ذلك يتذكره طيلة حياته الخالية إلا من ذكريات الألم و الجوع.

اقرأ أيضاً: الحياة الهادئة نعمة – شاهر جوهر

نعم لقد وجدتها، صاح كالملدوغ في شوارع بانياس ثم همس لنفسه (أريد فتاة هوى. نعم أريد أن أمارس الجنس مع فتاة لا تكون زوجتي. لا بد أن هذا هو المقصود بعبارة “ملذاتك الشخصية”). شكلت هذه الفكرة فقاعة من عالم لازواردي فوق رأسه المنكوش فيه غرفة حمراء و سرير من ريش النعام و حورية هابطة من جنات العريف ثوان فقط، قام أحد الحمقى بفقء الفقاعة و تناثر العالم الذي كان فيها بعد أن تذكر بأن ثيابه الداخلية المهترئة لا تسمح له بذلك، و علاوة على ذلك فإنه لا يعرف الغزل. لقد أنجب أولاده (على التواكيل). و لم يسبق لزوجته أن رأت منه (يوما أبيضاً على حد تعبيرها).

تخيل نفسه كمن يدخل معركة بالسلاح النووي (بسيف و ترس).. يا للهراء.. ماذا يريد… للمرة الأولى في حياته يشعر بأنه يملك المال. ولا يملك المآل…. محال و محال و محال كل ما فيها يلح عليه و يناديه.. ..إنه ببساطة يريد أن يشتري (بانياس) بمن فيها بثمانين ألف من الليرات السورية.

عاد لا يلوي على شيء، شبح آخر يطارده هو (أفاتار) صاحب البقالية المقابل لبيته والذي هدده في المكالمة الأخيرة بينهما بأنه سيجهز عليه لو تخلف هذه المرة عن التسديد، كان هذا كفيلاً بإعادته إلى صوابه و عودته مباشرة ليسدد له المبلغ كاملا كما جاء لقد سدد قسما من ديونه المتراكمة، واشترى كيلو غراماً واحداً من الموز، دخل به على أولاده و زوجته الذين لا يعلمون ما كان يجول بخاطره من خيانات.

و بعد لحظات اختفى الموز نهائياً و كأن الأرض انشقت وابتلعت ما كان في الكيس دون أن (ينتخي) أحدهم و يعرض عليه قشرة موز.. ثم إن ابنه الأوسط صاح في وجهه بفرحة عارمة: “طعم الموز لم يتغير على الاطلاق”، صحيح بأنني لم أتذوقه منذ سنوات .لكنه لم يتغير على الاطلاق….. رد على كلامه و القهر و الجوع يأكلانه معا: “نعم يا بني، كثير من الأشياء هي ذاتها لم يطلها أي تغيير…أنا أطمئن عليها دائما، و أراها من حين لحين.. في واجهات المحال، و على موائد الفاسدين …. شيء واحد طاله التغيير، لقد صار راتبي الشهري في بطونكم بدقائق، كان هذا يستغرق شهراً كاملا فيما مضى، و كان هنالك متسع للتفكير بـ (الملذات)”.

اقرأ أيضاً: بعد حواري مع متشرد أنا لا أشعر بالارتياح مثله – شاهر جوهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى