الرئيسيةرأي وتحليل

على الأرصفة.. ألغام مضادة للأفراد – أيهم محمود

الشاب الذي يتجاوز طوله 175 سم وابن بلد زراعي كان مصاباً بفقر الدم.. الخبز وحده لا يكفي

سناك سوري-أيهم محمود

في طابور انتظار الخبز الطويل التفت الشاب الذي يقف أمامي نحوي وسألني: “معك محرمة يا خال؟”، بحثت في جيب سترتي عن منديل ورقي نظيف وناولته إياه، انحنى إلى الأرض ليضمد جرح إصبع قدمه النازف، الذي صنع بقعة دم فوق الحذاء البلاستيكي المفتوح من الأمام.

بدا لي شاباً قوي البنية، طوله يتجاوز ١٧٥ سم، بلل الدم المنديل الورقي بسرعة لكنه سيساعد في وقف النزيف، نهض الشاب ليسألني مرة أخرى عن المدة المتوقعة التي سنقضيها للوصول إلى كوة توزيع الخبز، ربما أقل من ساعة، لا يوجد زحام كبير هذا اليوم، بدا لي أنه خائفٌ من التأخر على موعد ما لكن ظني لم يكن في محله فلقد كان للشاب اللطيف البسيط أسبابه الخاصة للقلق من مرور الوقت.

مقالات ذات صلة

تدخّل الشخص الذي كان يقف ورائي مباشرة وهو يلاحظ كمية الدم النازفة من إصبع قدمه الكبير، “إنها براغي الأعمدة أليس الأمر كذلك؟”، “لقد كادت أن تكسر إصبع قدمي الأسبوع الماضي”، كان يحدثني ويحدث الشاب الذي يجلس القرفصاء كل بضع دقائق ثم ينهض مرةً أخرى، سألته: “هل تشعر بالدوار؟ ربما من الإصابة والنزف في قدمك؟”، “لا يا خال، هذا بسبب فقر الدم الذي أعاني منه”.

اقرأ أيضاً: هل يواجَه الغزو الأميركي بالانعزال الثقافي؟ – أيهم محمود

توقف الحديث هنا، أصبح كل شيء مفهوماً لي، ليس الخبز وحده يستطيع أن يحافظ على صحة البشر، ومن الطبيعي أن تنهار الأجساد إن بقيت مواد كثيرة خارج القدرة الشرائية لمعظم السوريين، هل الحصار حقاً سبب كل مآسينا؟، ربما، لكن من الذي يمنعنا عن قص هذه البراغي في الأرصفة أو تغطيتها، هل هو الحصار؟، هذه الظاهرة ليست وليدة الأزمة ووليدة زمن الحصار بل هي تراث سوري قديم، في زمن الظلام الكهربائي لا تستطيع أن ترى أمامك بوضوح وهذه النتوءات الموضحة بالصور المرفقة أو الحفر المكشوفة يمكن أن تسبب لك آذيات جسدية كبيرة، لا تتعلق هذه الظاهرة بسلوك إدارات المدينة فقط بل هي سلوك شعبي عام لدى السوريين.

يحتقر عدد لا بأس منه من السوريين، المواصفات والمعايير ويتقاعسون عن إتمام أعمالهم بشكلٍ كامل، يتركون فيها دائماً الثغرات والعيوب، يرفضون بعناد غريب المواصفات العالمية ويرفضون أيضاً مواصفاتهم المحلية، ينتقدون الفساد ويمارسونه بغالبيتهم، ينتقدون بشدة عدم تطبيق القوانين والأنظمة ثم يضعون سياراتهم على الأرصفة ليمشي الأطفال صباحاً أثناء ذهابهم إلى المدرسة في الشارع فالأرصفة ممتلئة بسيارات من ينتقدون مخترقي القوانين وبسيارات المسؤولين عن تطبيق القوانين أيضاً.

تقوم المحافظة بمحاولة حل المشكلة المزمنة وتجهيز مواقف طولية للسيارات على حساب جزء من الرصيف فيُصرّ البعض على تحويل المواقف الطولية إلى مواقف عرضية ثم يكتشفون أن عليهم التقدم بسياراتهم إلى الامام لتشغل معظم مساحة الأرصفة لمنع المرور عليه، يهتم بعض الحساسين جداً بالحفاظ على سلامة سياراتهم ولو أدى ذلك إلى إصابة الأطفال بحوادث السير أثناء مرورهم في الشارع بعيداً عن الأرصفة المحتلة، صاحب السيارة نفسه يكتب منتقداً خرق القوانين ومنتقداً الفساد المستشري في البلد ومنتقداً كل ما تقع عليه عيناه أو يصله لسانه، ينتقد مسؤولي المحافظة، أو ينتقد قانون قيصر لأنه يقتل الشعب السوري، وكذلك سيارتك تفعل!.

اقرأ أيضاً: فقاعة دبي – أيهم محمود

ينتقد القضاة والدولة وربما نظام المجرة ونظام الكون كله لعدم تطبيق وتفعيل القوانين، هذا المواطن النموذجي العظيم يذكرك دائماً بقوانين حمورابي ويُسهب في وصف أسباب تقدم الدول الغربية: “سيادة القانون”، لكن قل لسيادة المواطن ذلك ولو تلميحاً أن يُزيح سيادة سيارته من على الرصيف ثم اسمع صوته العالي وتعرّف على طلاقة اللسان العربي الفصيح وعلى العنتريات وعلى التبريرات الجاهزة وعلى موهبته المميزة في تشويه أي مواصفة وأي معيار إنساني.

مثال السيارات والبراغي والحفر ليس يتيماً بل هو غيضٌ من فيض، من يُقنع هذه الفئة من السوريين أن العلة بهم، وأن إهمال التفاصيل الصغيرة قد يقود إلى الجحيم، بل قاد وانتهى بالفعل، فهل ما نعيش فصوله الآن ليس هو الجحيم الحقيقي؟، ألا يعني أن لا يستطيع شاب الوقوف على قدمه بسبب الفقر -ونحن بلد زراعي على الأقل- أننا نعيش فعلاً في جحيمٍ من صنع أيدينا وحدها؟، من يصارح السوريين بحقيقة الأمر من الأحزاب والأديان والتيارات الاجتماعية الناشطة، من يُضحي قليلاً بشعبيته ويحاول صدم الكتلة العامة بواقع أحوالنا وأسبابها، سؤالٌ موجهٌ للجميع، سؤال استفاقة من غيبوبةٍ طويلة لن تؤدي سوى إلى الموت وزوالنا إن لم نستفق سريعا ً منها.

اقرأ أيضاً: أمّة الماضي يَقتُلها وتَقتُلنا- أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى