عشية لقاء الشرع مع وفد الساحل السوري
لقاء مرتقب بين الرئيس أحمد الشرع و وفد من الساحل السوري
عشية اللقاء المرتقب بين الرئيس أحمد الشرع ووفد من أهالي الساحل السوري، لا بدّ من التذكير بأن المشكلة في سوريا اليوم هي مشكلة سياسية، إلى جانب كونها مشكلة إدارة وحوكمة، وتراكم تحريض وكراهية.
سناك سوري – بلال سليطين
قبل طرح أي مشكلة، لا بدّ من التطرّق إلى قضية التمثيل، وسؤال: من يُمثّل هؤلاء، ومن لا يُمثّلهم؟، في واقع الأمر، تعيش سوريا أزمة تمثيل حقيقية على مستوى البلاد ككل، ولا يمكن لأي مجموعة أن تحتكر تمثيل الناس. فعملية التمثيل ترتبط بشكل أساسي بالاختيار المباشر للناس، لكن عدم وجود تمثيل حقيقي للمجتمعات لا يعني تغييب أصوات هذا المجتمع أو ذاك. فجميع هؤلاء اليوم أصوات تختلف أحجام قواعدهم الشعبية، ومدى تبنّيهم لقضايا الناس، وتأثير مشاريعهم وطروحاتهم، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يدعي أو يحتكر تمثيل الناس، ولا يمكن للسلطة أن تقرر هي من يُمثّلهم.
وبتجاوز قضية التمثيل، والعودة إلى جوهر المشكلة السياسية، ومشكلة الحوكمة، وتراكم التحريض والكراهية، فإن معالجة هذه الإشكاليات تبدأ أولاً بالاعتراف بالتنوّع في سوريا، وبالحقوق الخاصة للمجتمعات والأفراد، وهي حقوق لا يحق لأيّ كان، سلطةً كان أو جماعة أو صاحب نفوذ وقوة، التدخل بها أو مصادرتها. فلا وصاية لأحد على أحد، إلا سلطة القانون العادل والمتساوي بين جميع السوريين والسوريات.
أزمة الحقوق والكرامة الإنسانية
وتسبق الحوكمة والسياسة أزمة حقوق الإنسان، وضرورة إيقاف الانتهاكات المستمرة ومعالجة القضايا العالقة، من مجازر الساحل السوري في آذار، إلى الاعتقالات التعسفية، والقتل العشوائي، والتهجير القسري في ريف حماة، والاستيلاء غير القانوني على الممتلكات، وخطف النساء، والابتزاز والتسلّط، فضلًا عن التهميش والإقصاء.
إلى جانب ذلك، تبرز ضرورة إخلاء سبيل آلاف المعتقلين الذين جرى احتجازهم في كانون الأول 2024 دون إخضاعهم لأي محاكمة، ودون أن تثبت التحقيقات تورطهم في أي جرائم أو انتهاكات. وحتى نقاط تقديم الشكاوى التي افتُتحت في عدة محافظات، مثل دير الزور، لم تشهد تسجيل شكاوى بحقهم، ما يؤكد أن احتجازهم يتم بشكل تعسفي وغير قانوني. وهؤلاء هم من يطالب بهم الأهالي، رغم تشويه مطالبهم. ومن ثبتت إدانته فليُحاكم محاكمة عادلة، ويتمتع بكامل حقوقه القضائية والإنسانية.
أزمة حوكمة وإدارة لا طوائف وطائفية
الحوكمة والإدارة هما جوهر الأزمة. فأساس الحوكمة هو إشراك المجتمعات في إدارة شؤونها. ومنذ عام حتى اليوم، جرى إقصاء مجتمع كامل في الساحل السوري عن إدارة شؤونه، عبر تعطيل الإدارة المحلية، ونقل مراكز الحوكمة والإدارة على مستوى المحليات إلى مدراء المناطق، وهو ما يعكس عقلية أمنية محضة ونهجاً مركزياً، وتوجّهاً واضحاً نحو تفريغ الإدارة المحلية من مضمونها. وإقصاء المجتمع عن اتخاذ القرار. لدرجة غاب فيها عن اختيارات السلطة لمكتب تنفيذي مسؤول عن محافظة كاملة تحقق التنوع الجغرافي والمجتمعي، وتحول إلى مجلس اللون الواحد، المجلس المقرّب من المحافظ الذي عيّنته السلطة المركزية أساسًا.
وتنسحب أزمة الإدارة والحوكمة على المؤسسات والإدارات الحكومية، التي بدل أن تتطوّر على أساس الكفاءة، تغيّرت على أساس القرب من السلطة، ووفق منهجية ما قبل الدولة. إلى درجة أصبح اختيار مدير مؤسسة في مدينة تمتلك آلاف الأكاديمين والمتخصصين يأتي من خارج البيئة ومن غير الخبرات المحلية.
إن خلل الحوكمة والإدارة يمتدّ حتى إلى الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، التي يتم بناؤها بشكل احتكاري وإقصائي، وبعقيدة وشعارات لا تتناسب مع الهوية الوطنية. ما تحتاجه البلاد هو أجهزة أمنية وعسكرية غير متفاعلة سياسيًا أو دينيًا، وهذا يتطلب تغيير آليات الانتساب، ومناهج التدريب، إضافة إلى تقسيم الأجهزة إلى أجهزة محلية تابعة لسلطة الإدارة المحلية، يتم اختيار عناصرها من مناطقها، وأجهزة وطنية تابعة لوزارة الداخلية، تُحدَّد مساحات عملها وتدخلها في المناطق بما يحترم سلطة وصلاحيات الإدارة المحلية.
ومعالجة الخلل ستؤدي لاحترام خصوصية المجتمعات الثقافية والاجتماعية. فما ينطبق على محافظة سورية قد لا يصلح في محافظة أخرى. ففي الساحل السوري، مثلًا، للنساء دور اجتماعي وسياسي خاص، ولباس، ونمط حياة قد يختلف عن محافظات أخرى. وبالتالي لا يحق للسلطة المركزية، ولا لأجهزتها ولا حلفائها، التدخل في خصوصية المجتمعات وعاداتها وتقاليدها وثقافتها الحياتية، فهذه شؤون خاصة وحريات فردية ومجتمعية لا يجوز الاعتداء عليها.
هذا أول لقاء يجمع الرئيس أحمد الشرع مع وفد من الساحل السوري منذ توليه السلطة
الاختلاف السياسي… لا الانقسام الطائفي
معالجة خلل الحوكمة والإدارة ستُسهم في حل جزء من المشكلة، لكن يبقى الجوهر متمثلًا بالحاجة إلى حياة سياسية حقيقية في البلاد. إذ تعاني سوريا من محاولة تكريس انقسام طائفي، وكأن الخلاف القائم هو خلاف بين طوائف، وهو ما يحوّل التنوع في سوريا إلى أزمة يصعب احتواؤها، بدل أن يكون التنوع مصدر غنى وقوة.
ويعود هذا التكريس، بشكل أساسي، إلى غياب الحياة السياسية، والامتناع عن العمل الجدي لإطلاقها. فانتقال البلاد من انقسام طائفي إلى اختلاف سياسي بين مشاريع يُعد مصلحة جماعية، لأنه ينقل الخلاف من الهويات إلى البرامج والرؤى. فبدل أن يختلف الناس اليوم على قضايا عمرها آلاف السنين، _كما قال الرئيس الشرع_، يجب أن يتحاوروا ويتنافسوا حول مشاريع سياسية تهدف إلى تحسين واقعهم ومستقبلهم كمواطنين ومواطنات وشركاء في هذه البلاد.
وعندما يجد الناس أنهم غير ممثلين لا في السلطة ولا في المعارضة ولا في القوى السياسية، فإنهم سيبحثون عن أي تمثيل يحتويهم ويتبنى جزءاً من مطالبهم ويدافع عن احتياجاتهم. وهنا تكمن مسؤولية السلطة في خلق الآليات التمثيلية داخل مؤسسات الحكم، وتوفير الهياكل والمؤسسات البديلة التي تتناسب مع الدولة الحديثة. وهذا لا يعني أن يبتعد الناس عن انتماءاتهم الدينية أو معتقداتهم، بل ألّا تتحول هذه الانتماءات إلى هوية تمثيل سياسي.
معالجة الكراهية والتحريض الطائفي… وآثار الماضي
تطالعنا يومياً مقاطع فيديو لمسؤولين في الدولة الجديدة كانوا، في مراحل سابقة، يمارسون التحريض الطائفي ويشحنون المقاتلين بخطابات وعبارات طائفية. وقد أعاد كثير من هؤلاء المسؤولين النظر في خطابهم، وانتقلوا إلى خطاب سياسي وطني جامع، إلا أن هذا التحول في الخطاب لم يُلغِ أثر التراكم السابق وتأثيره.
فنجد اليوم سلطة تتحدث بلسان معظم مسؤوليها بأفضل خطاب على مستوى القمة، في حين يمارس بعض العناصر على مستوى القاعدة أسوأ السلوكيات، لأنهم لم يتمكنوا بعد من اللحاق بالتغيير الذي بلغته القيادات. وهذا يحمّل القيادات مسؤولية مباشرة في معالجة تراكمات التحريض والكراهية على مستوى القاعدة، وإحداث تغيير حقيقي في بنية التفكير، بحيث تكون السلطة والموظفون والعناصر على النهج ذاته.
ويتطلب ذلك تجريم التحريض والكراهية، والعمل المكثف والمركز على تدريب الكوادر، وبناء عقيدة وطنية جامعة، وتحويل المؤسسات لتعبّر عن سوريا بتنوعها الثقافي والاجتماعي.
إن استعراض الواقع يطول، لكن لا بد من لحظة تُختصر فيها المطالب الجوهرية، التي لا يمكن أن يغيب عنها إطلاق حياة سياسية تخرج البلاد من الانقسام الطائفي الظاهر على السطح، وتبني نهج حوكمة وإدارة محلية يمنح المحليات سلطة إدارة شؤونها وفق نهج لامركزي، ينظم العلاقة بين المركز والمحليات على قاعدة الشراكة لا الوصاية، ويعزز الوحدة الوطنية، إلى جانب مواجهة التحريض والكراهية، وبناء مؤسسات وطنية بعقيدة ونهج جامع، وتحقيق الإشراك وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع، بما يحقق الاستقرار.








