سوريا تغامر بمرحلة انتقالية بين اشتراكية البعث وليبرالية حكومته
هل تدخل حكومة الجلالي التاريخ بقيادتها خصخصة الدولة؟
يبدو أن “سوريا” تعيش مرحلتها الانتقالية على طريقتها الخاصة التي تصدّرت الحكومة الجديدة مشهدها لتكون “أم الصبي” في مشروع التحوّل نحو دولة أكثر ليبرالية رغم الحديث المستمر عن “الاشتراكية”.
سناك سوري _ محمد العمر
فمنذ بيانها الوزاري أعلنت حكومة “محمد الجلالي” بوضوح أنها “حكومة الواقع” وهو أمرٌ يحسب لها في تقييم الإمكانيات والموارد المتاحة مقابل المطلوب منها. لكنها في الوقتِ ذاته ترى الحلّ للواقع القائم أن تتحوّل “الدولة” من “الأم الراعية” إلى “التنظيم والمتاجرة”.
وفي ظل محاولاتها لتقديم صورة مختلفة وغير نمطية عن جلساتها الأسبوعية مستعرضةً آراء الوزراء وحتى تباين وجهات نظرهم. فقد كانت الحكومة تمرّر نظرياتها الليبرالية شيئاً فشيئاً وتثبت مع كل تصريح سواءً لرئيسها أو أحد أعضائها أنها تنحو باتجاه “التخلّي”.
بينما ماتزال حناجر أطفال طلائع البعث تصدح بالاشتراكية يبدو أن الحزب يجري مراجعة لأيديولوجيته السياسية والتي لم تعد مفهومة إذا كانت استراكشية محدثة أم ليبرالية!.
نظرية الحكومة الليبرالية
تتلخّص النظرية الحكومية ببساطة بأن إمكانات الدولة الحالية لا تتيح لها تقديم ما كانت تقدّمه في السابق من دعم ورعاية للمواطنين. علماً أن جذور هذه النظرية تعود إلى العام 2005. حين لم يكن هناك حرب وأزمة وعقوبات ولا أي ذريعة ممّا يجري استخدامه حالياً. وكانت تسمّى حينها “اقتصاد السوق الاجتماعي” ربما لتلطيف فجاجة مصطلح “اقتصاد السوق” بمعناه المطلق الذي يقصي الدولة عن التدخل بمسارات السوق ويترك الحرية الكاملة لرؤوس الأموال.
وفي ظل شحّ الموارد ترى الحكومة أنه لم يعد هناك من جدوى للدعم بكل أشكاله. سواءً المباشرة منها عبر دعم أسعار بعض السلع الأساسية. أو غير المباشرة عبر استثمار الدولة في قطاعات معيّنة تمنح السوق منتجاتٍ بسعر أقل ممّا هو عليه في القطاع الخاص.
وبناءً على ذلك، ولأن الحكومة بحسب تصريحات مسؤوليها مؤمنة كامل الإيمان بعدم الجدوى من القطاع العام في معظمه. وبأن الشركات العامة “الخاسرة” يجب التخلص منها بدل إصلاح خللها لتحويلها إلى الربح. فقد ارتأت أن القطاع الخاص هو البديل المثالي لـ”الدولة” في تلك القطاعات لعلّها تتحوّل إلى مؤسسات رابحة.
أعلنها فيه رئيس الحكومة “محمد الجلالي” صراحة بالقول أنه لا يمكن للخدمات أن تبقى مجاناً وللأبد. إلا أن ما فاته في هذه العبارة هو أن الخدمات لا تقدّم مجاناً بالمطلق أصلاً.
هذه العقلية “الربحية” وصلت إلى الحدّ الذي أعلنها فيه رئيس الحكومة “محمد الجلالي” صراحة بالقول أنه لا يمكن للخدمات أن تبقى مجاناً وللأبد. إلا أن ما فاته في هذه العبارة هو أن الخدمات لا تقدّم مجاناً بالمطلق أصلاً. فالمواطن وإن لم يدفع بشكل مباشر لقاء كل خدمة فقد سبق له أن دفع ثمنها من خلال الضرائب والرسوم. فكيف للحكومة أن تفرض ضرائب بلا خدمات؟ أو أنها تريد جباية الثمن مرتان؟.
الاشتراكية كشعار للأطفال
وبينما كان حزب “البعث” يعلن عن حفل تنسيب لطلاب الصف الأول لضمهم إلى منظمة “طلائع البعث” رافعين شعارات الوحدة والحرية و”الاشتراكية”. كانت حكومته تتغنّى بالقطاع الخاص. فـ”الجلالي” الذي انتقد تراخي وتكاسل وزارة الكهرباء في ملف توزيع الكهرباء ما أتاح المجال لبروز ظاهرة الأمبيرات. اعتبر أن الحل الأجدى كان أن تحدّد وزارة الكهرباء منطقة جغرافية معيّنة وتعهيد توزيع الكهرباء فيها للقطاع الخاص.
السياسة الاقتصادية للدولة تهدف إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة. المادة 13 من الدستور السوري
الرؤية ذاتها سيتبنّاها وزير الصناعة “محمد سامر الخليل” في أكثر من مناسبة إذ رأى أن الانسحاب من بعض القطاعات الصناعية قد يكون خطوة إيجابية و”مربحة” للقطاع العام. وأن وزارته لن تتردد في المبادرة لاعتمادها في سياق التحوّل من دور التشغيل إلى دور التنظيم المدروس والمخطط. مبدياً تأييده لرأي “الجلالي” في ضرورة الانطلاق من تحديد دور الدولة في القطاع العام.
قد تكون النظرة الحكومية صحيحة من ناحية ربحية إذا اعتبرنا “الدولة” تاجراً في السوق. لكنها تعني بشكلٍ أو بآخر تخلٍّ عن الوظيفة الاجتماعية للدولة بوصفها مرجعية لشعبها ومسؤولة عنه. علماً أن المادة 13 من الدستور تقول بأن السياسة الاقتصادية للدولة تهدف إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.
سيستذكر السوريون في المستقبل هذه المرحلة جيداً وربما تحجز حكومة “الجلالي” مكانةً لها في تاريخ البلاد وقيادة هذا التحوّل الهائل نحو الخصخصة والحدّ من دور الدولة ورفع الدعم وزيادة الأسعار وغيرها من العواقب
بينما ماتزال حناجر أطفال طلائع البعث تصدح بالاشتراكية يبدو أن الحزب يجري مراجعة لأيديولوجيته السياسية والتي لم تعد مفهومة إذا كانت اشتراكية محدثة أم ليبرالية!. وبالنظر إلى الوقائع وإلى هذا التوجه نحو الخصخصة والحد من دعم الفئات الفقيرة ورعايتها برأيي إنها ليبرالية وليست اشتراكية محدثة. لكن المشكلة الكبرى بنتائج ذلك وفي ظل الظروف الحالية التي تراجع فيها أكثر من 90% من السوريين إلى ما تحت خط الفقر تبدو مظلمة ومجحفة. مقابل منح امتيازات وسمات لرؤوس الأموال بخياراتها التي قد لا تناسب حاجات المجتمع. كما رأينا مع موجة افتتاحات المطاعم والفنادق من فئة الخمس نجوم في بلد يضم 12.9 مليون شخص معدومين غذائياً بحسب “الأمم المتحدة”.
سيستذكر السوريون في المستقبل هذه المرحلة جيداً وربما تحجز حكومة “الجلالي” مكانةً لها في تاريخ البلاد وقيادة هذا التحوّل الهائل نحو الخصخصة والحدّ من دور الدولة ورفع الدعم وزيادة الأسعار وغيرها من العواقب رغم كل ما يحمله ذلك من مخاطر “واقعية” لا تحسب لها حكومة “الواقع” حساباً.