من رعب الرصاص إلى نوبة القلب.. ما أقسى أن تموت دون أن تفهم لماذا؟
كان بيننا 9 نساء و12 طفلاً بينهم رضيعتان تحتضننا البراري ويلاحقنا الرصاص

بقدرة قادر رحيم أضلّت الرصاصة رأسي الذي شعر بحرارتها وقوّة صوتها لدرجة تأثر غشاء الطبل في أذني بها، لكنّ حظ عم زوجي لم يكن مشابهاً، الرجل الستيني تلقّ رصاصة في رأسه بينما كنا نركض في البراري مع أطفالنا الرضع وآبائنا وأمهاتنا.
سناك سوري _ ناجية من أحداث الساحل
كان ذلك عند الساعة الـ11 من مساء يوم الأحد 9 آذار عندما سمعنا صوت إطلاق نار في القرية، كنا قد احتمينا كل أفراد العائلة معاً في منزل واحد محاطين بالخوف والأخبار التي تصلنا من قرى محيطة ترتكب فيها المجازر “القبو، الصنوبر، عين العروس”.
بدأ إطلاق الرصاص قريباً وربما كان يستهدف منزلاً أشعل ضوءاً أو أحداً خرج من منزله أو ضوء هاتف في مكان ما، أو أن فصيلاً جديداً دخل إلى القرية كانت الاحتمالات مفتوحة ولا خيار أمامنا سوى العودة للبراري والأحراش للاختباء بها من جديد.
جمعنا أنفسنا مع الجيران وخرجنا بشكل شبه زاحف ننشد الأراضي القريبة، حتى وصلنا إلى حظيرة أبقار الجيران التي سننطلق منها نحو البراري.
نساء وأطفال في رحلة الهروب
كان بيننا الرجال و9 نساء و12 طفلاً أكبرهم بعمر الـ12 عاماً وأصغرهم رضيعتان لم تكملا شهرهما السابع بعد، كل هذا وأزيز الرصاص يعصف بنا من كل جانب كنت أغطي طفلتي بجسدي بينما والدتي مريضة القلب تحبس أنفسها خلفي، وكلنا خلف بقرة احتمينا بها على أمل النجاة، وباقي الجيران كل يحبس أنفاسه، بينما صمت الأطفال حتى الرضع منهم وكأن الخوف تسرب إلى دمائهم الغضة فاستشعروا الخطر وقرروا السكوت..
مع استمرار إطلاق النيران نحونا، حمل زوجي طفلتي من تحت جسدي وركض بها منحنياً مغطيا إياها بجسده نحو أشجار الزيتون، حاولت اللحاق به، لأستشعر صوت رصاصة مرّت كالبرق بجانب أذني لدرجة أحسست بهوائها الساخن وصوتها الذي مايزال يسبب آلاماً داخل أذني. لكن الرصاصة التي نجوت منها لم يكلن لعمِّ زوجي الهارب معنا أن ينجو منها فقد أصابت رأسه وأصبح بيننا رجل مصاب.
التشظي بين المصاب وابنتي…
تفتت قلبي وأنا لا أعلم شيئاً عنه وعن طفلتنا بينما توقف صوت الرصاص بعد نحو ريع ساعة، لكن أحداً منا لم يجرؤ على العودة، أو حتى فتح الموبايل خوفاً من وميض شاشته، ومرّت ساعتان وسط هذا القلق المضني حتى قررنا المغامرة بالعودة خصوصاً بوجود مصاب علينا محاولة إسعافه.
بعد العودة علمت أن زوجي وطفلتنا وصلا لمنزل أحد الأقارب، لم يبرد قلبي فكيف سأنام بعيدة عنها وأنا لا أدري أي هجوم جديد قد يحمله هذا الليل لنا أو لها.
كان هناك ما هو أهم من مخاوف أم بقلب مفتت، فالدماء ملأت الغرفة وعمّ زوجي راقد بين ابنته الشابة وزوجته عاجزتان كما نحن، قبل أن تنجح محاولاتنا بالتواصل مع الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) الذي لبى نداء الاستغاثة مشكوراً، وأتى اثنان من أفراده بعد وقت ليس بالطويل، ومرة أخرى غامر زوجي بالقدوم بين الأشجار لينتقل مع عمه إلى المشفى، وهناك فارق الرجل الطيب الحياة، دون أن يقترف أي ذنب، سوى أنه مولود هنا في هذه البقعة الجغرافية.
بالسما في محل أحلى
كان الحزن يلّف القرية صبيحة اليوم المرعب، أنا بانتظار طفلتي وزوجي، بعد أن تفرقنا كل في مكان، وبعض الرجال تجمهروا لفتح القبر بانتظار وصول السيارة التي تنقل جثمان الرجل الطيب الذي فرّ من فراشه الآمن بحثاً عن النجاة قبل أن تباغته الرصاصة من الخلف..
وصلت السيارة تمت مراسم الدفن بطريقة سريعة، كان الجميع محتقناً خائفاً مذعوراً، مجرد الكتابة عن ذلك اليوم تجعلني أرتجف، مايزال قلبي يكافح للبقاء قوياً، وتعجز عيناي عن ذرف الدموع، اعتقدنا أن كل شيء انتهى، لكن كابوسي كان قد بدأ للتو في صبيحة اليوم الثاني بعد الدفن.
جلسنا خائفين كما العادة، لا أحد منا يقوى على تناول لو لقمة واحدة، ننظر بخوف وذعر في عيون أطفالنا، لا نستطيع طمأنتهم، غداً قد لا يكون يوماً جميلاً أبداً، أتذكر حديث جارتي لطفلتها ونحن وسط النيران: «ماما أنت قوية شو ما صار يصير رح يكون قدر رب العالمين ما تخافي يلي بيموت ما بيتوجع، بالسما في محل أحلى».
تجربة توقف قلوب الرجال
وسط ذلك السواد كلّه يسقط زوجي على الأرض واضعاً يده على صدره مع صرخة ألم كبيرة: «إيدي منملة، صدري عميوجعني، ما قادر آخد نفس»، طرنا بالسيارة ننشد المشفى، وصلنا بزمن قياسي كان كفيلاً بإنقاذه من الجلطة القلبية.
في الطريق كانت طفلتي الصغيرة تنتزع يد والدها من يدي: «هاتيها أنا بدلكها، يا بابا بالله لا بالله لا تروح أمانة لا تموت يا بابا يا بابا..»
في داخل قسم الإسعاف بالمشفى صرخ الطبيب: «المريض عميختلج الأكسجة صفر بسرعة بسرعة»، وقعت على المقعد لا أستطيع التنفس طفلتي بجانبي تصرخ زوجي يصارع الموت حواسي توقفت كلها عاد شريط الحياة الآمنة أمامي، ماذا فعلنا لنستحق كل هذا القهر نحن المدنيان اللذان لم نحمل سلاحاً في كل حياتنا؟.
لا إجابات، لا أحد مهتم بتقديم إجابة، لا أحد يريد تقديمها أساساً، إلا الطبيب الذي جاء بحاجة إجابة واحدة: «المريض استجاب للأدوية وبدو شبكة قادرين تدفعوا المبلغ؟»، أخبرته بنعم فقط أنقذه.. تمّ الأمر عاد للحياة، لم يكن وحده من عاد، طفلتي وأنا وحلمنا بحياة لا رصاص فيها ولا موت كلنا عدنا.. آمل أننا وصلنا.