رحلة البحث عن الذات قادت ريما بالي إلى خاتم سليمى وأوصلتها للبوكر
"حلب لا تقل جمالاً عن باريس، وعندما رأيتها بعد غربة سبع سنوات بكيت"
في حوارٍ مع الروائية الحلبية “ريما بالي” المرشحة للقائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية لعام 2024. عن روايتها “خاتم سليمى” اعتبرت أنّ الترشح للبوكر قد يمنح الأفكار أجنحة أقوى لتطير بها إلى أصحابها. معتبرة في حديث مع “سناك سوري” أنّها الخطوة الأولى لها في الحلم. أما تتمته فمزيد من الأفكار تتكفل بإيصال تلك الحمولة الإبداعية إلى أنحاء العالم.
سناك سوري- ميس الريم شحرور
وأضافت صاحبة “ميلاجرو” و “غدي الأزرق” التي تقيم حالياً في مدريد. أنّ روايتها الأخيرة “ناي في التخت الغربي” التي صدرت في آب 2023 هي جوهرة التاج، باعتبارها آخر أعمالها. إذ قادتها الخبرة والإتقان بعد الروايات الثلاث السابقة إلى التعلم من هفواتها ونسجها بشكل أكثر دقة. وما تتمناه هو أن تصل الرواية إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء، وأن تتبوأ المكانة التي تستحقّها.
فيما يلي نص اللقاء الكامل مع الكاتبة السورية “ريما بالي” المرشحة لجائزة البوكر:
من هي ريما بالي؟!
هذا من أصعب الأسئلة التي يمكن أن أجيب عنها، وسأتنصّل منه لأقول بأناقة ولكن بصدق وبساطة: “بما أن الإنسان هو ما تصنعه يداه، فأنا لست إلا رواياتي”. هناك تجدين وجهي الحقيقي الذي لا أعرف كيف أصف خارج دفّتي الكتاب ملامحه المتناقضة والمنسجمة في تناقض.
عرفت ريما حلب فتمثلت في رواياتها وحكاياتها، من يعرف الثاني أكثر حلب أم ريما؟!
أعرف حلب بقلبي وتعرفني بقلبها ولولا هذا القلب لما عرفت اليوم إحدانا الأخرى. حلب تغيرت وأنا تغيرت.
عندما عدت إليها بعد غيبة سبع سنوات وصلتها ليلاً وكانت الكهرباء مقطوعة عن الشوارع. لكنني من خلال نافذة السيارة كنت أراها بقلبي شارعاً شارعاً وساحة ساحة ومبنى مبنى. رقص القلب منتشياً وبكيت. وشعرت بقلبها يرقص لي ويبكي مثلي.
وعندما طلع النهار وأطلت عليّ المدينة بوضعها الحالي ومسحت بنظرتها المنهكة وجهي المتعب لم أعرفها ولم تعرفني. حتى تدخّل القلب وتنهّد فابتسمت في وجهها وابتسمت وبكينا نحن الاثنتان. ليس على المستوى الخارجي فقط أتحدث بل في العمق حتى في معرفتنا لحضن أمنا ووطننا. ينتابنا الشك أحياناً وتسود الغربة، لكن دائماً هناك بوصلة لتدلّنا وعلينا إيجاد تلك البوصلة.
أعرف حلب بقلبي وتعرفني بقلبها ولولا هذا القلب لما عرفت اليوم إحدانا الأخرى. حلب تغيرت وأنا تغيرت. الروائية ريما بالي
حلب بطلة “خاتم سليمى” هي نفسها بطلة “ناي في التخت الغربي”؟ وهل على حلب أن تنتظر سليمان آخر لتكون العودة، أعني عودة ريما؟
في “ناي في التخت الغربي” حلب لم تأخذ دور البطولة كما فعلت في “خاتم سليمى”، لا يعني هذا أنها كانت مجرد كومبارس، بل أن الرواية ناقشت ثيمات أخرى ولم تقدّم ثيمة حلب بنفس التركيز والقوة التي قدمتها بها “خاتم سليمى”.
أما بالنسبة للعودة إليها فأنا لم أعد أنتظر أي سليمان ليفتح لي الطريق، أعود إليها من حين لآخر لأخذ قبلتي وحضني وشحنتي من الحب، ولأخبّئ شيئاً منها في ذاتي كزوادة سفر، ثم أغادر من جديد لأتابع حياتي الراهنة بعيداً عنها.
يقال أن هتلر وقف مذهولاً أمام جمال باريس، وأمر جيشه بأن يترك كلّ شيء على حاله، فباريس مدينة لا تمسّ.. ألا تعتقدين أن جمال حلب كان كافياً ليشفع لها فتكف الحرب عن التدمير؟
بغضّ النظر عن صحة تلك المقولة (ولو كانت كذلك بالفعل). لا أعرف يقيناً إن كان من دمّر حلب أكثر إجراماً من هتلر. لكنني أجزم أن حلب لا تقلّ جمالاً عن باريس.
للأسف جمالها لم يشفع لها كما فعل لباريس، وكما لم يفعل لكثيرات من المدن الفاتنة على مر التاريخ كبغداد وبيروت وغزّة. بل بالعكس قد يكون هو أحد الأسباب التي أدّت إلى نكبتها. وأتذكر هنا قول نزار قباني مخاطباً بيروت بلسان المعتدين “وكان جمالك يؤذينا”.
ما الذي ينقذنا من هذه المهزلة الطويلة التي تحدث في العالم حولنا؟ وإذا كانت الكتابة عندك ملجأً ومهرباً من اختار منكما الآخر؟
هذا واحد من الأسئلة التي أشاطرك إياها ولا أملك الإجابة عليها. قد تكون الكتابة مهرباً وقد تكون مواجهة في الوقت ذاته. قد تكون مهرباً وقد تكون خروجاً إلى ساحة الحرب.
في كل الأحوال هي فعل إنقاذ نمارسه لذواتنا أولاً ولعالمنا ثانياً. طبعاً لن أدّعي أنّني سأنقذ العالم برواياتي لكن مجرد إثارتي لسؤال في ذهن قارئ قد يرضيني. وبالنظر إلى الكتابة كفعل إبداع فالموهبة الفطرية لا تكفي لتصنع كاتباً. وعليه الكتابة اختارتني عندما ولدت بشغف فطري وموهبة روائية. وأنا قبلت العرض وصادقت عليه وأتممت دوري في الصفقة عندما اخترت أن أدعم موهبتي بالعمل والبحث والتعلم والإنصات واحترام النص والقارئ.
لا أعرف يقيناً إن كان من دمّر حلب أكثر إجراماً من هتلر. لكنني أجزم أن حلب لا تقلّ جمالاً عن باريس. الروائية السورية ريما بالي
لو وقفت الآن تتأملين ثلاث صور فقط، صنعت من ريما بالي من هي عليها اليوم، ماذا ستكون؟
محطّات كثيرة صنعت مني من أنا اليوم وقد تشكل ألبوماً من الصور لكن إن أردت أن أختار أهم ثلاث صور من الألبوم، أسمّي ما يلي:
الصورة الأولى: أنا طفلة في بيتنا الأول، أجلس على الكنبة في حجرة الجلوس مع أخوتي ووالدي ووالدتي. على الحائط خلف الكنبة تنتصب مكتبة أبي الكبيرة الجميلة التي شكّلت كتبها أول عتبة لي للدخول في عالم الرواية والأدب.
الصورة الثانية: أنا مراهقة مع مجموعة من أقراني في بلدة صلنفة، نفترش سفح جبل يطلّ على وادٍ أخضر. ونتأمل بصمت لا يعكره إلا طنين نحلة شاردة أو زقزقة عصفور وصرصرة صرصار. أحاول أن أصفّي ذهني لكنه يبقى مشغولاً بأسئلة ملحّة وشكوك جديدة ستعدّ حلقات البحث عنها مفصلاً مهماً في تشكيل طريقة وعيي وتفكيري الإنساني.
الصورة الثالثة (مؤرّخة في أيلول 2012): من على سطح المبنى الذي أقطن فيه في حلب، حلب القديمة تبدو من أمام مرمى نظري تحترق بعد معركة طاحنة وتحلّق فوقها سحابة سوداء ضخمة تبتلع السماء.
يذكر أن “ريما بالي” من مواليد 1969، درست في جامعة حلب وتخرجت من كلية التجارة والاقتصاد. وعملت في مجال السياحة، غادرت سوريا عام 2015 واستقرت في إسبانيا.