درجُ الأمل إلى دمشق … فراس خليفة
سناك سوري – صحف
بـ «طلوع الرُّوح» يصِلُ الرجُلُ السبعينيّ إلى أعلى الدرج قبل أن يتابع طريقه ناحية منزله في في حيّ المرابط في منطقة المهاجرين. كان عليه قبل ذلك أن يتوقّف قليلاً في منتصف الدرج تقريباً وأن يتّكىء أكثر من مرّة على الجدار ليبلغ أخيراً الدرجة رقم 127 حاملاً معه ربطةَ خبز وابتسامة صغيرة. «يكتّر خيرهن اللي رسَموا ولوّنوا الدرج»، يقول الرجُل وهو يعرف أن عَمَلاً فنيّاً كهذا لن يقصّر المسافة فعلياً لكنه «مريح نفسياً» على حدّ قوله.
يشبك رجلٌ آخر يده بيد زوجته ويصعدان الدرج بخطى متثاقلة كمن يريد أن يُطيل المسافة أكثر. تُسارِع الفتاة ذات الكنزة الورديّة اللون لإلتقاط صُوَر لها في المكان فتبدو كأنها جزء مكمّلٌ للوحة فنيّة رسمها أكثر من أربعين فنّان وفنانة على خاصرة قاسيون. تقول الفتاة: «بحبّ الألوان، والدرج مليان ألوان يعني مليان بكل الشغلات اللي بحبها». يحتشد «جمهور» المارَّة على الطريق عند أوّل الدرج. ينظر بعضهم سريعاً إلى أعلى ويتابع سيره.
يرجعُ البعض الآخر لإلتقاط صورة مع الدرج الذي تحوَّل إلى «معلم ثقافي» مُجاور لواحدة من أجمل حدائق دمشق (حديقة النيرَبَيْن) بعدما كان مجرَّد درج يربط بين حارتيْن. «درج الأمل»؟ يشرح صاحب ومصمّم الفكرة الفنان بشار شعبان أصل الحكاية فيردّها إلى ثلاث سنوات مضت حين لفت نظره موقع الدرج الذي يعدّ الأطول في دمشق في منطقة تُعرف تاريخياً بكثرة أدراجها بفعل تكوينها الجغرافي.
اقرأ أيضا : القصر الجمهوري الذي أصبح ورشة لصنع الأحذية
يقول شعبان إنه اتّخذ القرار بتجميل الدرج منذ ثمانية أشهر، لكن «التمويل لم يتوفر إلا قبل شهر واحد من جانب أحد المتبرّعين المهتميّن بالمشاريع الفنيّة». يقول الرجُل إنّ «العمَل» الذي أُنجِز خلال ستّة أيام شكّل تحدّياً صعباً بالنسبة لفريق المتطوّعين الذي بقي في وضعية «انبطاح» على الدرج بمعدّل تسع ساعات يومياً. انبطاح؟ يضحك الرجل لافتاً إلى «أن عملية الرسم تمّت في توقيت واحد على كامل مساحة الدرج وكل شي كان بالريشة الناعمة». ولكن من أين استوحيت التصميم؟ يقول شعبان: «النقشة النصّانية الرئيسية المكرّرة أكثر من مرة مأخوذة من نقشة بـ «قصر العظم» وهي تعبّر عن هوية دمشق البصرية، أما النقشات الباقية الموزعة على طول الدرج فتستخدم عادة في الأقمشة والمنسوجات بشكل عام»، لافتاً في السياق ذاته إلى «أن الدراسة اللونيّة للمشروع أخذت في الإعتبار نسَقاً متناغماً». ماذا عن ردّة فعل الناس والجيران؟ «هم مَن أعطانا حافزاً إضافياً للشغل»، يقول شعبان مشيراً إلى «أن الجيران نزّلولنا مياه وفواكه وشاي وفتحولنا بيوتهم خلال فترة التنفيذ. قالوا لنا إننا غيّرنا وجه الحارة من خلال تلوين الدرج».
يضيف: «أخبَرَنا أحد الجيران إننا فعلنا ما عجزت عن تلبيته المحافظة عبر إضاءة الدرج في إطار المشروع نفسه».
شعبان الذي رأى أن درج الأمل حقّق نسبة عالية جداً من التفاعل على وسائل التواصل الإجتماعي أشار إلى تلقّيه «طلبات كثيرة من أبناء حارات أخرى في المنطقة للقيام بمبادرات شبيهة في أدراج أخرى».
يُجمِع كلّ الفنانين المشاركين من أسرة جمعية «شمس» على «الشعور بالفخر» لمشاركتهم في صناعة «الإنجاز».
بالنسبة لرؤى الصباغ، فإنّ «درج الأمل» الذي «يشبه تراثنا هوعبارة عن سلسلة تكتمل تباعاً من أول مشروع أنجزناه وصولاً إلى اليوم»، بينما تؤكّد هالا القطلبي على أنّ الدرج «يمثّل مسيرة حياة كل شاب سوري طموح في هذه الأزمة». يصِف علي صافية عملية الرسم على الدرج بـ «الفكرة المبتكرة التي تتميز بالألوان وببساطة التصميم».
درج الأمل كان «الهايلايت» لسنة ألفين وسبعة عشر بالنسبة لألينا الشاطر التي ترى «أن قيمة الإنجاز تتجلّى في تقدير الجهد من قبل الناس الذين بدأت تتغير نظرتهم تجاه هذا النوع من الفنون في وقت الحرب».
وفيما يركّز محمد أوطه باشي على حالة التفاعل اللافتة بين المتطوّعين والناس، ترى نادين غنّوم «إن درج الأمل والمبادرات الأخرى الشبيهة هي الرّد المناسب على الأزمة التي تقوم بتشويه كل أوجه الجمال في البلد».
يزدحمُ الشارع الرئيسي القريب من «درج الأمل» بسيارات «الميكروباص» في إحدى لحظات الذروة المروريّة. نزلت أخيراً الـ «باكسي» إلى الخدمة في شوارع دمشق وأثارت آراء متباينة حول جدواها، فضلاً عن أنها لن تكون صالحة للإستهلاك في الأماكن المرتفعة كـ «المهاجرين» مثلاً. العلَم السُوريُّ العملاق لا يبعدُ سوى أمتار قليلة من هناك. لا إحصاء دقيقاً لِمَن ماتوا تحت ظلّه وفي ظلّ رايات متعدّدة «الألوان» في السنوات السبع الماضية.
تُخيِّم فوق دمشق سحابة رمادية ضخمة إيذاناً بـ «المنخفض» الآتي. ترتجف امرأة من البرد على الدرج يليها فتى يحمل أغراضاً منزلية بينما تُلقي قطّة شقراء نظرة خاطفة على العابرين صعوداً ونزولاً قبل هطول المطر.
درجُ الأمل إذاً، الواقع في «حارة النعمان بن مقرّن» وقرب «حارة جرير» نسبة إلى جرير التميمي الشاعر العربي المعروف بالهجاء. لا وقت للهجاء الآن بنظر مجموعة «شباب سوري مثقف». يرَوْن «أن الفن هو دواء للإنسان ليطيب من كآبة الحرب» ويؤكدون أنهم تجاوزوا مرحلة الإحباط رغم خسارات الحرب. «عايشين عالأمل»، يجزم هؤلاء. «لما بتكون متفائل بتطلّع لفوق وهيك الدرج» يقول أحد الناشطين مضيفاً: «بعالم أفلام الكرتون صوّروا لنا أن هناك درجاً يصعد إلى الجنّة وفي الواقع شبّه لنا أحد المواطنين درج الأمل بدرج الجنّة».
ـــــــــــــــــــــــــــ
«شمس» دمشق تلوِّن جبل قاسيون؟
كانت البداية في العام 2006. لم يكن حينها العمل التطوّعي في دمشق منتشراً على نطاق واسع. «ازدهر» بشكل خاص في سنوات الحرب. لم يتجاوزعددهم في ذلك الوقت 12 شاباً وشابة معظمهم من خريجي كليّة الفنون الجميلة. التجربة الأهم لجمعية «شمس» التطوعية قبل الحرب تمثّلت بحفل موسيقي ضخم نُظّم بالتعاون مع الإتحاد الأوروبي (2008) استُقدِم فيه 50 عازفاً من دول أوروبية ومثلهم من سوريا.
لاحقاً تركّزت مشاريع الجمعية على الرسم على الجدران وتجميلها في أكثر من منطقة في دمشق من باب مصلّى إلى الشيخ سعد وغيرها وصولاً إلى مدرسة «دار السّلام» في الشعلان (2014) وأُطلق حينها المتطوّعون شعار «لأنّ الفن والجمال أقوى من الحرب والدمار». يشير رئيس الجمعية بشار شعبان إلى أنّ «شمس» تضم اليوم قرابة 45 متطوعة ومتطوع من فنانين ومهندسي عمارة معظمهم طلاب وخريجي جامعات جُدُد. «لا يوجد في الجمعية أيّ موظّف ونفكّر أن نبقى كذلك». الشاب المولود في دمشق في العام 1977 يرى «أن معظم عمارات وأبنية الشام تفتقر للألوان وكلّها لون واحد تقريباً (بيج ورمادي غالباً) ونريدها أن تصير أحلى وأجمل». وإذ يقول إن في جعبة الجمعية مجموعة من الأفكار والمشاريع للمرحلة المقبلة يطمح الرجل مستقبلاً أن يرى كل بيوت «قاسيون» ملوّنة ! «يمكنك فقط تخيّل المشهد، بيطلع معنا أحلى جبل بالعالم».
اقرأ أيضا : مكتبة “العجيلي” على قيد الحياة بعد اختبائها 4 سنوات عن داعش
يُدرك شعبان صعوبة الأمر في الوقت الراهن لكن «خطوة خطوة منوصل للحلم»، مُشدّداً على القول «إنّ سبعة آلاف عام من الحضارة تقول إن سوريا ستنهض من جديد».
فراس خليفة – جريدة الأخبار