حين قال لي أبي “إن الرجال لا يبكون”
لطالما كان يحتضنني حين يراني أذرف دموعي لعدم قدرته على شراء ما أرغب به. ثم يقول لي كعادته. و بطعم الأبوّة العاجزة (الرجال لا يبكون يا أدهم). فكل الرجال هنا يتمنون لو يكون الفقر رجلاً. كم كنت أحتقر تلك الكلمة. فأنا لا أريد أن أكون رجلا. أريد أن أعيش طفولتي فأنا لم أتجاوز الثانية عشرة من العمر بعد.
سناك سوري – شاهر جوهر
لطالما كان يحتضنني حين يراني أذرف دموعي لعدم قدرته على شراء ما أرغب به. ثم يقول لي كعادته. و بطعم الأبوّة العاجزة (الرجال ما يبكون يا أدهم). فكل الرجال هنا يتمنون لو يكون الفقر رجلاً. كم كنت أحتقر تلك الكلمة. فأنا لا أريد أن أكون رجلا. أريد أن أعيش طفولتي فأنا لم أتجاوز الثانية عشر ة من العمر بعد.
لكن لم أدرِ للوهلة الأولى في ذاك اليوم العصيب لماذا أجهش بالبكاء عندما رآني مستلقٍ على سرير أسود. معصوب الرأس وبعيون شبه مفتوحة. وكأنه يقول لي (ليس أمام الأبوة رجولة. وأنه أمام جراحي ليس برجل).
مسح دمعته المالحة فوق سريري بكفيه الحلوتين المتسختين بالغبار. أما أنا وبعين مغمضة وأخرى نصف مفتوحة. جاهدت لأرى لما هذا الضجيج في هذا المكان الغريب و المزدحم.
ففي البعيد امرأة تنوح وتلطم على وجهها. وأب آخر يحمل كومة لحم بين ذراعيه. يركض و يصرخ (يا مسعف. يا مضمد. كرمى لله عالجوه لولدي). وفي الزاوية رجل مسن أسند ظهره إلى الحائط واحتوى بكفيه رأسه الصغير المضمّد بالشاش. وفي عينيه عبرات حزينة لجثة ممدة قربه.
اقرأ أيضاً: ناشط يطالب الرجال بتقديم بعض الحب والإحساس لزواجتهم
وجوه الممرضين والأطباء البائسة بذهولها البادي بالحيرة والعجز. ومراويلهم البيضاء الملطخة بالدماء تخبر الجميع عن هول ماحدث. يزرعون المكان جيئة وذهاباً. أحدهم يتطاول بقامته على أحد الأسرّة يصرخ بصوتٍ عالٍ (زمرة دم A إيجابي .. زمرة دم A إيجابي .. نحتاج لمتبرع يا شباب). ثم يقاطعه آخر (زمرة دم O سلبي على وجه السرعة يا شباب). مسح أبي باقي دموعه التي ظننت أنها نفدت. لكني لم أدري وقتها أن حجم مخزون الدمع هو بحجم مخزون الجرح والألم.
صرخ والدي مشيراً بيده للممرض (أنا زمرتي A ايجابي أخي الممرض). وقبل أن يذهب طبع على جبيني بشفتيه الناشفتين قبلة جميلة. ومن ثم شمّر عن وريده وهرول إلى غرفة الطبيب.
بقربي وضعوا شاباً يبدو في الثلاثين شقّت قذيفة بطنه حتى لطخت لحيته بالدماء. أدار وجهه إلي حين أخذ الممرضون يطببون له جرحه. وبين الحين والآخر كان يعضّ على شفتيه ويئن من الوجع. ينادي لزميل له يمسك له السيروم (اذهب واعرف ما حل بعائلتي).
الكل هناك يحاول أن يعرف أخبار عائلته أثناء سقوط قذيفة في حارتنا. فقد اختلط اللحم ببقايا البيوت وما عدنا نستطيع أن نميز أحد. ومن نجا من الشضايا ها هو يئن في هذا القبو. أو ما يسميه الجميع باسم (المشفى الميداني).
اقرأ أيضاً: “طرق الموت” تحصد أرواح سوريين..29 ضحية ومئات الجرحى
في الخارج يعلو صوت الرصاص. وتقترب القذائف العمياء والمبصرة من المكان. تزدحم الأنفاس. وتصمت لوهلة ولا يعلو سوى صوت الدعاء وبكاء الصغار. أنا لم أبكِ. ربما لأن الرجال لا يبكون. وربما لأني مذهول من هول ما يجري. أبي ووسط هذا الازدحام يحاول أن يشق طريقه إلى سريري. يجلس بقربي بحيل فاتر وبوجه بهتت ملامحه.
لكن لم أدرِ للوهلة الأولى في ذاك اليوم العصيب لماذا أجهش بالبكاء عندما رآني مستلقٍ على سرير أسود. معصوب الرأس وبعيون شبه مفتوحة. وكأنه يقول لي (ليس أمام الأبوة رجولة. وأنه أمام جراحي ليس برجل).
مسح دمعته المالحة فوق سريري بكفيه الحلوتين المتسختين بالغبار. أما أنا وبعين مغمضة وأخرى نصف مفتوحة. جاهدت لأرى لما هذا الضجيج في هذا المكان الغريب و المزدحم.
ففي البعيد امرأة تنوح وتلطم على وجهها. وأب آخر يحمل كومة لحم بين ذراعيه. يركض و يصرخ (يا مسعف. يا مضمد. كرمى لله عالجوه لولدي). وفي الزاوية رجل مسن أسند ظهره إلى الحائط واحتوى بكفيه رأسه الصغير المضمّد بالشاش. وفي عينيه عبرات حزينة لجثة ممدة قربه.
وجوه الممرضين والأطباء البائسة بذهولها البادي بالحيرة والعجز. ومراويلهم البيضاء الملطخة بالدماء تخبر الجميع عن هول ماحدث. يزرعون المكان جيئة وذهاباً. أحدهم يتطاول بقامته على أحد الأسرّة يصرخ بصوتٍ عالٍ (زمرة دم A إيجابي .. زمرة دم A إيجابي .. نحتاج لمتبرع يا شباب). ثم يقاطعه آخر (زمرة دم O سلبي على وجه السرعة يا شباب). مسح أبي باقي دموعه التي ظننت أنها نفدت. لكني لم أدري وقتها أن حجم مخزون الدمع هو بحجم مخزون الجرح والألم.
اقرأ أيضاً: الكاتب السوري حليم بركات … سرقته الغربة باكراً وختم الزهايمر أعوامه التسعين
صرخ والدي مشيراً بيده للممرض (أنا زمرتي A ايجابي أخي الممرض). وقبل أن يذهب طبع على جبيني بشفتيه الناشفتين قبلة جميلة. ومن ثم شمّر عن وريده وهرول إلى غرفة الطبيب.
بقربي وضعوا شاباً يبدو في الثلاثين شقّت قذيفة بطنه حتى لطخت لحيته بالدماء. أدار وجهه إلي حين أخذ الممرضون يطببون له جرحه. وبين الحين والآخر كان يعضّ على شفتيه ويئن من الوجع. ينادي لزميل له يمسك له السيروم (اذهب واعرف ما حل بعائلتي).
الكل هناك يحاول أن يعرف أخبار عائلته أثناء سقوط قذيفة في حارتنا. فقد اختلط اللحم ببقايا البيوت وما عدنا نستطيع أن نميز أحد. ومن نجا من الشضايا ها هو يئن في هذا القبو. أو ما يسميه الجميع باسم (المشفى الميداني).
في الخارج يعلو صوت الرصاص. وتقترب القذائف العمياء والمبصرة من المكان. تزدحم الأنفاس. وتصمت لوهلة ولا يعلو سوى صوت الدعاء وبكاء الصغار. أنا لم أبكِ. ربما لأن الرجال لا يبكون. وربما لأني مذهول من هول ما يجري. أبي ووسط هذا الازدحام يحاول أن يشق طريقه إلى سريري. يجلس بقربي بحيل فاتر وبوجه بهتت ملامحه.
اقرأ أيضاً: اللاذقية تودّع عصام طوبال صاحب الفن السابع.. الذي داوى زوّاره بالسينما
في تلك الاثناء أخبرته أني أشعر بحرارة تحت ساقاي، كشف الغطاء عن ساقي المهشمة، ليعلو صوته المرتجف مناديٍ للطبيب، بعدها بدقائق أغمي علي، لاستيقظ بعد يوم كامل وفي خيمة على أطراف البلدة.
كان ذلك أسوء واقع عشته في حياتي، لأعيش بعدها مع أطول كابوس في عمري، عمتي بقربي تنظر إليَّ بعينيها المتورمتين من الدمع، أبي هو الآخر يمسح جبيني بوجع، ثم يقول لي بصوت مهزوز «نشكر الله أنك لازلت حيّاً يا أدهم، فنصف السوريين بلا أطراف، هي أيام وستعتاد العيش بساق واحدة».