“حلب”.. حين صمت صوت الطفلة تحت الأنقاض وهي تستجدي أمها إنقاذها

ربما لن تصدق أن هذه الأمور حدثت بالفعل داخل “سوريا”.. فماذا تفعل إن شاهدت “كلباً” يحمل بين فكيه يد بشرية!
سناك سوري-عفراء بهلولي
تساقط المواطنون في حلب كأوراق الخريف على مدى سنوات الحرب التي مالبثت أن طوت صفحتها في المدينة حتى وجد الموت طريقاً آخر إلى الحلبيين الذين راحت تتساقط بيوتهم فوق رؤوسهم بفعل الضرر الذي ألحقته بها المعارك.
اعتاد أهالي حلب خلال ثماني سنوات الاستماع للأغاني الحزينة، فهي إحدى وسائل العزاء لهم عن المصائب التي حلت بهم، هذه الأغاني لاتسمع من الراديو ولا من الأجهزة الصوتية، وإنما ترددها الأمهات كوسيلة لتمجيد الأموات والبكاء على فراقهم.
وفي الوقت ذاته فإنهم في أصعب الظروف وجدوا متسعاً من الحياة، جلسة في المقهى، مباراة كرة قدم، صبحية لاستعادة ذكريات المدينة، دراسة في الجامعة، تعليم في المدرسة… إلخ.
إلا أن ذاكرة الحرب راسخة في خيالات من عاشوها حتى اليوم، فها هي “إيناس” تستذكر خلال حديثها مع “سناك سوري” مدينتها من خلال مشهد كلب وقد التقط يد بشرية بفكيه ومضى بها بعيداً، كان ذلك في شتاء عام 2016 تقول: «لن أنسى ذلك المنظر ماحييت».
اقرأ أيضاً: “اضطراب ما بعد الصدمة” مرض أصاب آلاف السوريين… أين العلاج؟
«افرح، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء، لأنَّ موتاً طائشاً ضلَّ الطريق إليك، من فرط الزحام وأجلك»، هي أبيات من قصيدة لـ”محمود درويش” ترددها على مسامعي “إيناس” وتقول إنها لطالما سمعتها من شقيقتها خلال سنوات الحرب في حلب، وتضيف لـ”سناك سوري”: «كان هذا رد أختي علي كلما حدثتها عن أنني أصبحت متعبة نفسياً من أصوات الاشتباكات ومشاهد الدمار والموت المؤجل من حولي».
تضيف: «نعم كان موتاً مؤجلاً، جميعنا كان يعتقد أنه سيموت، لكن لا أحد كان يستطيع أن يعرف متى يأتي يومه، فقد تخرج من باب منزلك بشكل طبيعي وبعد الخطوة الخامسة أو العاشرة قد تسقط قذيفة فتحولك أشلاء أو جسداً معطوباً إلى الأبد… لكنني لم أمت هذا صحيح بيد أن هذه الحرب حنطتنا فخرجنا مدمرين منها حتى وإن بقيت أجسادنا».
غادر الكثير من أهل المدينة وأصر الكثير على البقاء ولكن أن لا تملك قدرة على اتخاذ قرارك البقاء من الرحيل فهذه المصيبة بعينها، بين لحظة والثانية يتغير كل شيء تفكيرك محصور بفكرة كيف أنجو وعند الشدة تطلب الموت ألف مرة في اليوم.
اقرأ أيضاً: هل تعوض “نور” أمها عن إخوتها الذين سرقتهم الحرب … قصص نساء سوريات
“نورا” لم تستطع أن تبكي حين وجدت جثة والدها.. لم يكن أشلاءاً!
تستعيد “نورا” وهي ابنة 26 عاماً واحداً من مشاهد الحرب في الذاكرة عندما تأخر والدها يوماً عن العودة إلى المنزل وكيف خرجت هي وأخوها الأصغر للبحث في المشافي بعد أن وقع تفجير جامعة “حلب”، تضيف: «أبي موظفٌ في الجامعة وأتذكر جيداً أنه كان يوم امتحانات عندما وقع التفجير لم تسمح أمي لنا في البداية أن نخرج خوفا علينا، لكنها اقتنعت في النهاية وذهبنا ودخلت إلى المشفى المليء بالجثث، بحثت تقريبا وعاينت قرابة 50 أو 60 جثة لا أذكر، إلى أن وجدت جثة أبي … لم أستطع أن أبكي … كان كل ما أتمناه بتلك اللحظة أن أجد الجثة … جلُّ ما أردته أن لا يكون أشلاءً مملوءة بكيس الموت على عجل».
“ديما” وهي جارة “نور” أيضاً متخرجة “أدب عربي” وتسكن بالقرب من “قلعة حلب” التي لطالما تفاخرت أن منزلها كان بجانب هذا الصرح العظيم، تقول: «كنت أشعر بالتميز لكون منزلي في منطقة مهمة في حلب بجانب القلعة، لقد اعتاد أبي أن يأخذنا إليها بشكل دوري.. الكثير من الذكريات تملأ رأسي عن طفولتي حول القلعة، عن السياح الأجانب الذين كانوا يخرجون آلات التصوير لالتقاط صور للقلعة».
تضيف: «بعد اندلاع الحرب في المنطقة فضّل أبي البقاء في مدينته ومسقط رأسه فهو لا يريد الخروج من المدينة. لاحقا عرفت أني ورثت عن أبي إحساساً قوياً بالانتماء للمكان»، لكن مشهداً قاسياً من ذاكرة الحرب حال دون استمرار حياتهم هناك فقد سقط صاروخ على بناء قريب من منزلهم، فسارعت بطيب مع جيرانها لانقاذ الضحايا، تقول إنها سمعت «طفلة عالقة تحت الأنقاض تنادي أمها وتلومها».
تضيف “ديما” لم يستطع أحد إنقاذ الصغيرة إلى أن سكت صوتها نهائيا.. كانت تبكي وهي تقول لوالدتها كلمات تحرج الروح، تطلب منها أن تُخرجها من تحت الأنقاض، تبكي “ديما” وتضيف: «أتذكر جملتها وأتذكر دموع أبي، وعندما عدنا إلى البيت كان قد سقط صاروخ آخر حينها قرر والدي أن نغادر المدينة واليوم نمضي عامنا الرابع خارج “حلب”»
تختم “ديما” حديثها بالقول: «أحب مدينتي ولم يخمد احساسي بالانتماء لأماكن طفولتي ولكن ما فعلته هذه الحرب بأرواحنا بحاجة للكثير من الوقت للشفاء».
“ديما” التي أيقنت حاجتها للشفاء، تراجع اليوم المعالج النفسي بانتظام للعلاج من آثار الحرب في نفسها، ومعها “نورا” و”إيناس”، فالثلاثة يعشن أزمة نفسية عميقة وقد امتلكن الشجاعة على مواجهتها والعمل من أجل علاجها، وهن ينتظرن الشفاء على أمل أن يستطعن العودة لعلاج مدينتهم التي نزحن عنها داخل سوريا وينتظرن العودة إليها.
اقرأ أيضاً: “أم عمار” وداعش …. نظرة الوداع الأخيرة!