جميلتي “مديرا” التي دفعت ثمن أخطاء الحكومة!
أهالي “مديرا” كبروا بدون تعليم وسط مجتمع تحكمه العادات والتقاليد.. والحكومة التي دخلتها اليوم بسطوة السلاح رفضت أن تدخلها سابقاً بسطوة الفكر!
سناك سوري-أحمد عبد الجليل
لم يكن سهلاً علي أن أقنع والدي بشغفي للدراسة عوضاً عن الذهاب مع الأغنام إلى المرج المجاور حتى ترعى ما يطيب لها من العشب الطازج، لكن الأمر كان مستحيلاً على شقيقتي التي سرعان ماتزوجت بجارنا البنّاء حين أتمت الـ19 من عمرها، دمعة شقيقتي آنذاك كانت كفيلة بتغيير حياتي لألا أجعل ابنتي تذرف هذه الدمعة مستقبلاً وكي لا أتحول أنا إلى نموذج أبي.
أنا طبيب من “مديرا” تلك المساحة الجغرافية الرائعة الجمال التابعة لدوما في الغوطة الشرقية، و”مديرا” للكثيرين الذين لا يعرفون شيئاً عنها، بلدة نسي سكانها العلم واتبعوا عاداتهم وتقاليدهم القديمة التي تمكنت فيما بعد وبجهد جهيد من خلعها ورميها خلف ظهري والتوجه إلى أوروبا لمتابعة التحصيل العلمي حيث أسست لحياة جديدة ليست مختلفة وحسب وإنما أبرز ماجاء فيها كان ردة فعل على كل الواقع الذي واجهته في قريتي الجميلة التي غابت عنها عين الحكومة وإلزامية التعليم حتى أصبحت كبلدة بحكم ذاتي وياليته كان حكماً منطقياً.موقع سناك سوري.
اقرأ أيضاً: ابنة دوما.. السيدة التي أرادت لصوتها أن يعلو فوق صوت القذيفة
سكان “مديرا” الذين اختاروا وجهتهم عقب اندلاع الأحداث في سوريا ليكونوا خلف الكتائب الإسلامية المتطرفة، ليسوا إلا نتيجة حتمية لإهمال التعليم، ففي عام 2009 قبل اندلاع الأحداث في سوريا، لم يكن في كل القرية البالغ عدد سكانها آنذاك وفقاً للاحصاءات الحكومية 10 آلاف نسمة، سوى 3 أو أربع من حملة الشهادات الجامعية، بينما يعمل الآخرون في البناء والزراعة ورعي المواشي، حيث كان الأهل يحرصون على ألا يخرجوا من العادات والتقاليد وكان العلم والتحصيل العلمي عدواً لهم، وأما النساء فهيهات عليهن الحلم بالمدرسة بعد الصف التاسع الإعدادي على أبعد تقدير، طبعاً يساعدهم في ذلك عدم وجود مدارس كافية، حتى ثانوية لم يكن يوجد في القرية بعام 2009، فأي مهزلة هذه؟.
أكتب من وجعي وألمي وأنا أرى عشرات التهم تكال لهم عبر الفيسبوك بالإرهاب والتبعية والقتل وغيرها من التهم التي تتحملها الدولة والحكومات المتعاقبة، أو ليسوا هم من أهمل تعليم سكان القرية، خوفاً من الاصطدام بإسفلت العادات والتقاليد وليعطوا أهلها مطلق الحرية في عيش حياتهم كما يحلو لهم، رغم قلة الأمتار التي تفصلهم عن الواجهة الحضارية للبلد العاصمة دمشق.موقع سناك سوري.
شقيقتي التي كانت تحلم بدراسة الهندسة تزوجت قسراً في سن الـ19 عشر وفي سن الـ25 توفيت بسبب إجهاض طفلها الرابع، لم يحتمل جسدها الصغير الحمل المتكرر، ولم يرحمها زوج يريد فيلقاً من الأطفال الذكور يباهي به أمام أصحاب الذقون والشوارب والعناتر في القرية.
ربما أولاد أختي كبروا وأصبحوا مقاتلين أو ربما موتى تحت الأنقاض أو ذكوراً كوالدهم وجدهم، ولكن من يلومهم؟، لماذا تلومونهم؟، إنهم ضحية قبل أن يكونوا قتلة أو جلادين، ضحية عادات وتقاليد مزيفة، ضحية حكومة بلادهم التي تركتهم لمصيرهم دون أن تدخل بسطوة الفكر إلى البلدة، بينما حين احتاجت دخلت بسطوة السلاح إليها، ترى لو دخلت بسطوة الفكر فيما مضى هل كنا سنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم؟، وقس على هذا المثال أغلب المناطق والبلدات السورية التي خرج منها الفكر المتطرف بهذا الزخم والقوة.
اقرأ أيضاً: “دوما” مدينة الكرمة ودرة الغوطة الشرقية … تعرف على عاصمة “الريف الدمشقي”
“مديرا” الجميلة ورغم كل كرهي وحقدي على العادات والتقاليد التي تمسك بها أبناء القرية، إلا أن ذكرياتي بها لا تكاد تفارق مخيلتي، الكتاب الذي كنت أصطحبه معي خلسة عن والدي بينما أشرف على الأغنام خاصة عائلتي، والهروب صباحاً إلى المدرسة، وعدد العصي التي انهالت على جسدي كرمى لعيون العلم، والطرق المتعرجة التي ركضت بها مع صديقي “اسماعيل” نلهو ونلعب، وابنة الجيران التي “زاغت” عيني نحوها بكل حب قبل أن أكتشف أنها مرسومة لابن عمها “الزكرت”، وكثير من القصص المعجونة بالألم والحنين والحب والخزلان.موقع سناك سوري.
فهل تكتشف الحكومة أخطائها وتبادر إلى حلها أم أن التاريخ سيكرر نفسه كما اعتدنا نحن العرب أن نقول ونقول حتى بات الأمر حقيقة، وكأنك تشاهد فيلم سينما ممل، أود حقاً أن أصطحب عائلتي إلى تلك القرية الجميلة يوماً ما لكن هذا لن يحدث في خضم كل تلك الفوضى، أقله ليس الآن وكل هذه التهم توجه لأهالي “مديرا” الجميلة التي دفعت ثمن أخطاء الحكومة وثمن التمسك بعادات عفنة أشد عفونة من رائحة هذه الحرب.