الرئيسيةرأي وتحليل

ثقافةٌ من ورق – أيهم محمود

ينصحون الآخرين بضرورة الابتعاد عن الفيسبوك لأنه يدمر العلاقات الشخصية، ويدمر ثقافة انغلاقنا وتقوقعنا على العفن المحلي

سناك سوري-أيهم محمود

في صف الانتظار الطويل، استغرق شابٌ في بداية العشرين من عمره بالعمل على هاتفه الذكي، لديه فترة انتظارٍ طويلة لا تقل عن ساعتين قبل الوصول إلى كوة الفرن، وقفت وراءه لأرتاح قليلاً قبل أن أبدأ أنا أيضاً باستخدام هاتفي لكتابة مقالي الأسبوعي أو قراءة كتاب، الانتظار يقتل العقل لذلك يجب إبداع فكرةٍ ما، غير تكرار الحديث عن الأزمات وأسبابها، وغير التذمر وإطلاق الشتائم كما يفعل كثيرٌ من الناس في صفوف الانتظار، لهؤلاء المزعجين الذين يتكلمون مع أنفسهم بصوتٍ عالٍ ليسمعهم الجميع مواهب أسوأ من محاولة نقل طاقتهم السلبية إلى كل من حولهم، هم لا يكتفون بعجزهم عن استغلال الوقت المهدور بأي عمل مفيد بل يقومون أيضاً بالسخرية من أي فردٍ لا يشاركهم عجزهم هذا.

وقف رجلٌ ورائي، انتظر دقيقة أو دقيقتين قبل أن يتذمر من مصاعب الانتظار، ومن مشهد الشباب الغارقين في الشاشات المضيئة الصغيرة، قصد بحديثه مع نفسه الشاب اللطيف أمامي، “جيلٌ تافه، جيلٌ عبدٌ لهذه الأجهزة، لا يهمهم سوى التسلية…، …”، إلى آخر هذه المعزوفة البائسة المكررة التي سمعتها أنا أيضاً من أجيال تكبرني في العمر عندما كنت شاباً، المتحدث في بداية الخمسين من عمره، لقد حان دوره وفق التقويم الاجتماعي العام ليصبح عجوزاً حكيماً ينتقد الشاب الطائش الذي يقف بصمتٍ وتهذيب دون ضجيج ودون التدخل في شؤون الآخرين.

أزعجت حكيمنا صورة شابٍ نجح في إيجاد طريقة تقيه من ضرورات التحديق في نجوم السماء، والتكلم مع نفسه وشتم غيره وإزعاج الآخرين حوله لمدة ساعتين، ضحكتُ في سري وأنا أتخيل مشهد عينيه حين رؤية استغراقي في العمل على هاتفي لتمضي الساعتان دون أن أشعر بهما.

اقرأ أيضاً: مساحة للدراسة – أيهم محمود

ليست حالة الرجل ورائي حالةً استثنائية، وليست أيضاً حالةً خاصة بشعوب منطقتنا، أعتقد أنها حالة منتشرة عالمياً، أرى في مواقع التواصل الاجتماعي العديد من المواد البصرية التي تُظهر الأدوات التقنية كأدوات استعباد للبشر، أرى صوراً من الماضي المجيد، من عصر الجرائد الورقية، يظهر فيها أناسٌ منهمكون بالقراءة في وسائط النقل العامة، صورٌ مهمة في نظر ناشريها تُظهر الفرق بين عصر الثقافة الرفيعة وعصر الثقافة الرقمية البائسة، عصر الظلمات الذي يستخدم فيه البشر أدوات الاتصال الحديثة للقراءة بدل الورق، لم تُظهر لي صور الماضي الرائع المنتشرة في الانترنت نوع المواد التي قرأتها الأجيال العظيمة السابقة.

هل كانوا يقرأون صفحة الوفيات أم صفحة الإعلانات التجارية، هل كانوا مستغرقين في قراءة التحليلات السياسية التي أثمرت حربين عالميتين وجنون حربٍ باردة أم كانوا يقرأون بنهمٍ الأخبار الفنية، يبحثون فيها عن تاريخ ممثلة أو ممثلٍ مشهور، كيف تطلقت، وكيف يأكل طعامه، ومتى تعطس أكثر… في الصباح أم في المساء، متى تنام ومتى تصحو، ربما قرأ البعض منهم مقالاتٍ في اختصاصهم العلمي، أو ربما بحثوا عن مواضيع تهمهم في اختصاصاتٍ أخرى غير تخصصهم الجامعي.

اقرأ أيضاً: هل سمعتم يوماً بحروب سعاد وسليم؟ – أيهم محمود

تحمل الجمل السابقة بالتأكيد الكثير من السخرية، نعم أسخر وبشدة أيضاً، لا توجد فروق كبيرة بين الرجل الذي وقف ورائي في دور انتظار الخبز وبين الكثيرين من مدعي الثقافة الذين أرى منشوراتهم يومياً في موقع الفيسبوك، وهم ينصحون الآخرين بضرورة الابتعاد عن هذا الموقع لأنه يدمر العلاقات الشخصية، ويدمر ثقافة انغلاقنا وتقوقعنا على العفن المحلي، يذكرني هذا المشهد بصورة متطرفٍ سياسي أو ديني يذهب إلى خمارة أو ملهى ليلي لهداية رواده بعد منتصف الليل، التناقض هنا له هذا اللامعقول المثير للسخرية، والمثير للشفقة أيضاً، الشفقة على هذه العقول المتخشبة التي تُعميها صورة الأدوات دون أن تكلف نفسها عناء مناقشة المحتوى المعروض فيها.

ماذا نقرأ، هو السؤال الأهم الذي لم تناقشه صور الماضي الورقي المجيد، ليس مهماً الوسيلة التي نستخدمها لتوسيع نطاق معارفنا بل المحتوى الذي نسعى وراءه فيها، صورة المثقف الذي يهاجم أدوات الاتصالات وجيل الانترنت تكاد تتطابق مع صورة الكهل الذي يهز رأسه ممتعضاً من تصرفات الجيل الجديد رافضاً لمعظم تفاصيلها، صورةٌ بائسة مكررة لا تتسق مع حقيقة تقدم العالم وتطوره حتى مع وجود بعض التراجعات الموضعية فيه.

لو كان كل جيل أسوأ من سابقه لانقرضت البشرية منذ زمن بعيد ولما شاهدنا تطور العلوم وتطور معارف الإنسان، هي الهزيمة الحضارية أمام شباب يعرفون كيف يتعاملون مع أدوات عصرهم، توقفت عن الاستماع لضجيج الرجل ورائي، بدأت بكتابة مقالي ليختفي صوته من عقلي، لم أعد أسمعه رغم استمراره في الشكوى والثرثرة مع نفسه، لحقت بالشاب الخلوق أمامي إلى أن وصلتُ إلى إنجاز مقالتي هذه وحصولي على خبزنا كفاف يومنا.

اقرأ أيضاً: أوهام الخلود والإنجازات العظيمة – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى