عن الانتداب الفرنسي.. غزل من نوع آخر – حسان يونس

ماهو موقف هنانو من دور المساجد؟ وما هو الحلم الدستوري والدور التركي آنذاك؟
سناك سوري – حسان يونس
لقد اقترن الجلاء 17 نيسان 1946 بشخصيات سعت بكافة الطرق لتحقيقه، ومن هؤلاء ابراهيم هنانو، كان الرجل ممن انتدبوا إلى المؤتمر السوري العام 1920 قبل الاحتلال الفرنسي، وقد صدر إنذار غورو والمؤتمر لا زال منعقدا، فغادر ابراهيم هنانو جلسات المؤتمر واتجه إلى مقره في حلب، وبدأ يعد العدة للقتال حيث قاوم الفرنسيين بين عامي (1920-1921) وبعد انكسار ثورته عسكريا نتيجة عوامل داخلية خارجية، على رأسها الاستغلال التركي لثورته وطعنه في الظهر من خلال الاتفاق الفرنسي التركي المعروف باسم “فرانكلين – بوييون”، بعد هذا الانكسار عاد الرجل إلى العمل السياسي، فشارك في الانتخابات النيابية للجمعية التأسيسية في 10 و24 نيسان 1928، ثم انتخب رئيسا للجنة إعداد الدستور المنبثقة من الجمعية التأسيسية.
إلا أن هنانو لم يكن رجلا سياسيا ثوريا فقط، بل كان صاحب مشروع تنويري متقدم بالقياس إلى زمنه وزمننا الحاضر، ومن لمحات مشروعه أنه وقف في ذكرى المولد النبوي الشريف يخطب في حلب يوم 29 تموز 1932 في جامع البرهمية في حي الجلوم، ومما جاء في خطابه :
” أيّها الإخوة :« أطأطئ الرأس إجلالاً لذكرى النبي العظيم الذي جاء بالدعوة إلى السلام والحق والوئام .
لقد كان العرب المسلمون يجتمعون في الجوامع، وهذه الأماكن ليست للعبادة فقط ولكنها للنصح والإرشاد والاجتماع وإلقاء الخطب .
إليكم أيها الشباب أوجه كلامي، أنتم رجال المستقبل، إذا طأطأتم رؤوسكم أمام الظلم تكونون أنتم المسؤولين عن أعمال الظلم».
اقرأ أيضاً: لمن لا يعلم.. حجارة “الأموي” تكتنز إرث السوريين العلماني!
بهذه الكلمات الموجزة طرح هنانو فكرة ثورية، حين اعتبر أن أماكن العبادة ليست فقط لممارسة الطقوس الدينية، وليست فقط منابر للكهنة يتلون من عليها نصوصهم المقدسة، ويمارسون استنادا إليها سلطتهم الروحية التي قد تنحرف إلى تدجين المجتمع وتهجين قيمه وترويضها، بل هي كذلك أماكن “للإرشاد والاجتماع وإلقاء الخطب”، بمعنى آخر هي أماكن لتداول الشأن العام والنقاش في القضايا المحلية وهي الفكرة التي طوّرها وأعاد طرحها المفكر الليبي الكبير الصادق النيهوم (1937-1994)، حيث اعتبر أن الجامع بالإضافة إلى كونه مسجد للتعبد، هو كذلك مكان للاجتماع وتداول الشأن العام، وهو بصياغة أخرى برلمان محلي يتوجب على مرتاديه ممارسة دور في إبداء الرأي والمساءلة والتفاعل مع قضايا المجتمع، بحيث ينتقل المواطن من مواطن سلبي يتلقى توصيات وتوجيهات الكهنة والقوى السياسية المتحركة خلف ستارهم إلى مواطن فعّال متفاعل مع تلك القوى السياسية الرابضة خلف ستار المعبد.
اقرأ أيضاً: قيادي بعثي: نحن حزب علماني بامتياز
كان ابراهيم هنانو سبّاقا إلى تبنّي فكرة الجامع الذي ينخرط من خلاله المواطنون في إدارة شؤونهم فيتحولون إلى مواطنين فعالين، وهي ثقافة كانت سائدة على مستوى واسع لدى النخب السورية آنذاك، فعلى سبيل المثال كان رشيد رضا رئيس المؤتمر السوري العام 1920 قد لعب دورا محوريا في خروج المؤتمر بتوافق على دستور علماني يفصل الدين عن الدولة، ويفصل السلطات، ويعترف بالتنوع الثقافي، حيث لم يشر الدستور إلى الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، ولا إلى الدين الإسلامي كدينٍ رسمي للمملكة السورية التي أقرّها المؤتمر، وهو ما لم يتحقق في جميع الدساتير اللاحقة، رغم أن رشيد رضا مفكر إسلامي وهو خليفة محمد عبده والمؤتمن على فكره، والمفارقة انه انتقل بعد غزو الفرنسيين لدمشق وإسقاطهم مفاعيل المؤتمر السوري العام إلى مصر، كما انتقل فكريا إلى موقع آخر داعيا إلى عودة الخلافة.
لقد هزّ الغزو الفرنسي أفكار الرجل بقوة ودفعه إلى التمسك بالإسلام كهوية سياسية في مواجهة الهجوم الغربي الكاسح، وكان من التلاميذ الذين ألهمهم رشيد رضا حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان المسلمين عام 1928، وهنا لا نجازف إذا قلنا إن نجاح المؤتمر السوري العام، واكتمال التجربة الدستورية الديمقراطية الناتجة عنه كان كفيلا بدفن الإسلام السياسي قبل أن يولد، وكان كفيلا بفتح أبواب العلمانية على مصراعيها أمام مجتمعاتنا، لكن الغرب وتوحشه الرأسمالي كان له رأي آخر ولا زال .
وبالعودة إلى الحديث عن الفرنسيين وعن بعض الأصوات التي تخرج هنا وهناك في كل مناسبة جلاء لتتغزل بالانتداب الفرنسي “وبمنجزاته” ولتستنكر عجز السوريين عن بناء دولة حديثة بعد خروج المستعمر، فهؤلاء يغيب عنهم أن الفرنسيين أجهضوا الحلم الدستوري السوري الذي كان على وشك الولادة من رحم الثقافة التنويرية التي حملتها نخب كابراهيم هنانو ورشيد رضا.
اقرأ أيضاً: التجربة الديمقراطية السورية الأولى.. البرلمان و لجنة الدستور قبل 100 عام