
في الوقت الذي تُعتبر فيه إعادة الإعمار أولوية قصوى لسوريا ما بعد الحرب، يواجه قطاع الإسمنت اللاعب الأهم في هذه المرحلة تحديات كبيرة ليس من الواضح إن كانت الحكومة ستلجأ إلى الخصخصة لحلها.
سناك سوري-دمشق
حيث كشف مدير عام الشركة العامة لصناعة وتسويق الاسمنت “عمران”، “محمود فضيلة”، عن العديد من التحديات التي تواجه قطاع صناعة الإسمنت، وقال في فيديو نشرته وزارة الصناعة، إن قطاع الإسمنت يعتبر استراتيجياً، لكنه يعيش تحديات وصفها بالكبيرة، مثل تأمين الاحتياجات اللازمة لصناعته كالفيول الذي يشكل 65% من كلفة المنتج، كذلك تأمين مستلزمات الإنتاج من قطع تبديل وآليات ومعدات ثقيلة.
التنافسية الشديدة بعد دخول الإسمنت المستورد، أحد أبرز التحديات التي تحدث عنها “فضيلة”، وقال إنه يجب تكثيف الجهود للنهوض بهذه الصناعة التي لم يسع النظام السابق لإنعاشها، وورثت الإدارة الحالية قطاعاً مدمراً بالكامل، لكن برزت بارقة أمل في حديث المدير فالمواد الخام متوفرة بجودة عالية كذلك الأيدي الماهرة والخبيرة.
وكانت أسهم شركات البناء والإسمنت التركية قد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في كانون الأول الماضي، على خلفية التوقعات بأن تستفيد من إعادة إعمار سوريا، وأكد رئيس أبحاث السوق في شركة “إنفو ياتيريم”، “يوسف دوغان”، حينها أن القرب الجغرافي والعلاقات التجارية مع سوريا يمنح الشركات التركية أفضلية في الاستفادة من هذه المرحلة.
الخصخصة لقطاع استراتيجي هل هي الحل؟
لكن اللافت أن المدير ذاته، “محمود فضيلة”، سبق أن كشف خلال كانون الثاني الفائت خلال تصريحات نشرتها “CNBC عربية”، عن وجود دراسة لخصخصة معامل الإسمنت أو طرحها للشراكة مع القطاع الخاص، وهو ما أثار موجة استغراب وتساؤلات لدى متابعين وخبراء اقتصاديين، خصوصاً أن البلاد على أعتاب مرحلة إعمار ضخمة، يفترض أن ترفع الطلب على الإسمنت إلى مستويات غير مسبوقة.
الفتيح: إذا كان المنتج سيواجه طلباً مضموناً، فلماذا يُفكر ببيعه؟ وما هي الجدوى من خصخصة قطاع رابح؟.
تلك التصريحات أعادت إلى الأذهان النقاش القديم حول الخصخصة، وهو موضوع لطالما قوبل برفض شعبي واسع خلال السنوات الماضية، حيث يرى خبراء أن على الدولة أن تحافظ على القطاعات العامة، لا سيما الرابحة منها مثل المياه والمعابر الحدودية والإسمنت، بدل التفريط بها لصالح الشراكة أو البيع.
وفي تعليق له وقتها قال الخبير الاقتصادي “محمد صالح الفتيح” عبر منشور في فيسبوك، إن الإسمنت سيكون من أكثر المواد طلباً في السوق السورية خلال الفترة المقبلة، تزامناً مع تحسن الظروف السياسية والإدارية التي من شأنها تسريع عودة السوريين وبدء حركة الترميم والبناء، وتساءل: «إذا كان المنتج سيواجه طلباً مضموناً، فلماذا يُفكر ببيعه؟ وما هي الجدوى من خصخصة قطاع رابح؟».
الفتيح اعتبر أن الخيار المنطقي هو صيانة المعامل الحالية عبر قروض من احتياطي المركزي، بدل بيعها لاستخدام عائدات البيع في تمويل زيادات مؤقتة على الرواتب، مشيراً إلى أن ذلك “أكثر منطقية واستدامة على المدى البعيد”.
فضيلة: سعر طن الإسمنت كان بداية التحرير 165 دولار، انخفض لاحقاً إلى 115 دولار، لأنه كان محتكراً لدى فئة مستفيدة من النظام.
في تصريحاته الجديدة قال “فضيلة”، إن سعر طن الإسمنت كان بداية التحرير 165 دولار، انخفض لاحقاً إلى 115 دولار، لأنه كان محتكراً لدى فئة مستفيدة من النظام، مشيراً أن الأخير لم يشجع أو يطور هذا القطاع رغم أهميته، فهل يتم هذا الآن؟ وكيف سيتم هل بالخصخصة والشراكة مع الدول الخارجية عوضاً من استثماره من قبل الدولة والاستفادة من عائداته كاملة؟
خطة للتعافي
“فضيلة” كشف عن وضع خطة من أجل تعافي هذا القطاع مبنية على عدة مراحل، الأولى إعادة هيكلة المؤسسة ووضع التشخيص السليم للقطاع، ثم وضع خطة للتدرج بإعادة تشغيل بعض المعامل وتطويرها، كذلك وضع خطة استثمارية للمعامل المتوقفة.
تنتج سوريا حالياً نحو 4 ونص مليون طن من الإسمنت سنوياً بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، وفق “فضيلة”، مضيفاً أن الاحتياجات تقدر بين 12 إلى 15 ملون طن سنوياً ستكون قابلة للزيادة بحال بدأت عملية إعادة الإعمار لتصل لنحو 18 مليون طن سنوياً.
بالاستناد إلى التباين في تصريحات “فضيلة” التي يفصل بينها أقل من 3 أشهر، لا يبدو أن الحكومة حسمت أمرها حتى الآن، بين الاستثمار المباشر في هذا القطاع أو اللجوء إلى الخصخصة والشراكة مع الدول الأجنبية.
الخبراء مثل “الفتيح” يرون أن الاحتياج الكبير للإسمنت في المرحلة المقبلة، يشكل فرصة نادرة للدولة لتعزيز مواردها وتحقيق دخل ثابت ومستدام، عبر إعادة تشغيل معاملها واستثمارها بالشكل الأمثل، دون الحاجة إلى تقاسم الأرباح أو السيطرة مع أي شريك خارجي، سواء كان قطاعاً خاصاً داخلياً أو خارجياً.
لكن آخرين يفكرون بالخصخصة كطريقة ناجحة لإعادة تشغيل العديد من المعامل العامة المتوقفة، بالمقابل يجمع الغالبية على أن إعادة الإعمار تحتاج إلى خطط اقتصادية ذات بعد وطني، تبنى على أساس استثمار الثروات المحلية، لا على بيعها، وفي مقدمة هذه الثروات، تأتي صناعة الإسمنت، باعتبارها ركيزة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، لا في البناء ولا في الاقتصاد.
وبين التصريحات المتفائلة عن الخطط المستقبلية، والخطوات المقلقة نحو الخصخصة، يظل قطاع الإسمنت السوري نموذجاً حياً للتحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني في لحظة مفصلية من تاريخه.