سناك سوري – أنس جودة
انتهت “حرب السنتين” السورية، وبدأت مرحلة جديدة عنوانها الأساسي “الاستقرار الهش”، فبعد ست سنوات من القتال والصراع اليومي بين القوى الإقليمية والدولية على الساحة السورية، وصلت المنطقة إلى حالة أصبح من الضروري فيها وجود تهدئة تخفض من مستوى الصراع العسكري على الأرض السورية، وتحد من موجات اللجوء وانتشار الإرهاب في العالم، وذلك لإفساح المجال لإطلاق جولات جديدة من حرب النفوذ والسيطرة على القرار الدولي على جغرافيا جديدة وبطرق وأدوات مستحدثة.
أسباب التوافق الدولي هذه تتقاطع مع المصلحة السورية فقط عند نقطة الحاجة للاستقرار الذي يشكل الغاية المشتركة المرحلية بين أغلب أصحاب المصالح، ولكن التصورات والآليات والحوامل المقترحة للتهدئة السورية ليست مستندة إلى قواعد اجتماعية اقتصادية سياسية ثابتة ومتينة، ولا تعكس الحاجات المحلية في استدامة الاستقرار المبني على المشاركة والتنمية، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى عودة دورة العنف والانفجار المجتمعي بطريقة ربما تكون أكثر تدميراً للبنية المجتمعية، وعندها لن تقوم للدولة والمجتمع السوري أي قائمة أبداً.
لذا فالسؤال الأهم اليوم هو كيف يمكننا كسوريين تمكين الاستقرار المطلوب في خضم الصراعات الدولية على الأرض السورية والبناء عليه بعد ذلك للوصول إلى شكل أكثر استدامة وملائمة للحاجات الوطنية.
للإجابة على هذا التساؤل لابدّ بداية من استعراض التصورات الدولية للاستقرار السوري، والحاجات الفعلية المحلية. فالرمال السورية متحركة على مستويين، مستوى دولي إقليمي ومستوى محلي، وفي كل مستوى هناك ديناميكيات وتصورات لبناء الاستقرار، لننتقل بعدها لدارسة الطرح السوري المناسب الذي يضمن استقرار البلاد وسيادتها، وفي نفس الوقت القدرة على بناء المجتمع والدولة السورية من جديد.
المستوى الدولي والإقليمي
يحمل مستوى الصراع الدولي ديناميكيات متعددة، تبدأ بشكل رئيسي بالتناقض الاستراتيجي القطعي الروسي الأمريكي، ومن خلفه مسألة الشراكة في إدارة العالم، وقضايا الغاز والنفط والسيطرة على الاقتصاد الدولي، وخطط الولايات المتحدة لمواجهة استراتيجية “الحزام والطريق” الصينية، وتمر عبر الصراع السعودي الإيراني، وضمان أمن الكيان الاسرائيلي، والطموح التركي للتأثير على سياسات الشرق الأوسط، ولاتنتهي بالصراع الخليجي الجديد الذي يبدو أنه لن يكون طارئاً وقصير الأجل، والنتيجة الواضحة لاستقراء هذه المحاور هي أن الصراع مستمر وطويل الأمد، وأن التوافق الحالي لتهدئة ساحة الحرب السورية هو توافق هش تفرضه ضرورات الترتيب للمعركة القادمة باتجاه إيران، خصوصاً بعد تحقيق الغاية البديلة للهجوم على سوريا باستنزاف مقدراتها وخروجها من ساحة التهديد العسكري الفعال.
فالصراع الدولي على الأرض السورية الذي انطلق من دفع سوريا لتغيير تموضعها الجيوسياسي وتحالفاتها الإقليمية تارة بالضغوط والوسائل السياسية، ولاحقاً بالحرب المفتوحة بعد اليأس من استجابة سوريا لإعادة التموضع، قد وصل إلى نتيجة مختلفة، ولكنها تحقق نفس الغاية وهي خروج لاعب أساسي من دائرة صنع قرارات الشرق الأوسط العسكرية والسياسية.
وبينما كانت غاية الحرب، التي فشلت نتيجة موازين القوى الإقليمية، تغيير هذه القيادة واستبدالها أو بالحد الأدنى تشاركها السلطة والقرار ضمن جسم واحد يملك كل الصلاحيات مع قوى أخرى تستطيع لاحقاً التأثير على صناعة القرار السياسي، أصبحت الصورة التوافقية المطلوبة اليوم بسبب الحاجة للاستقرار النسبي كما ذكرنا هي صناعة مناطق نفوذ على الأرض السورية للقوى الإقليمية والدولية تضمن من خلالها تأثيرها على الساحة السورية، واستثمار هذا التأثير في صراعاتها البينية، وانعكاس هذا الأمر على المسار السياسي سيكون بتغيير موضوعه للحديث عن الحوكمة بدلاً من الحكم، بمعنى آخر إدارة الصراع بين القوى ولكن على المستوى المحلي بين المناطق وتقاسم النفوذ الجغرافي بدلاً من السياسي ضمن الدائرة العليا للحكم.
وتحقيقاً لهذا التوجه الجديد سيتم الاستغناء عن أدوات المرحلة السابقة من معارضات سياسية وعسكرية تتحدث عن “حل” على المستوى الوطني، وعن مواضيع الصلاحيات الرئاسية وتوزيعها على السلطات الدستورية، لصالح الانتقال لإيجاد قوى مناطقية اجتماعية وعسكرية تعبر عن مناطق تقاسم النفوذ وتستبدل من يمثل الهيئة العليا للتفاوض وتكون مواضيع التفاوض هي شكل الدولة وصلاحيات المناطق، وخصوصاً صلاحيات عقد الاتفاقات الاقتصادية وإعادة الإعمار.
هذا النموذج يعني بكل بساطة تقاسماً للكعكة السورية عبر وكلاء محليين “شرعيين” هذه المرة، وخلق جزر وإمارات منعزلة ضمن الحدود الدولية للدولة السورية، ولكنها منفصلة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا مما يكرس التقسيم ويجعل الاستقرار مرتبطا بحالة التوافق الهشة بين الدول، والقابلة للتغير في أي لحظة، خصوصا أن الصراع الإقليمي لم يستنفذ بعد، واحتمالات الانفجار مازالت قائمة وجدية.
المستوى المحلي
أما مستوى الصراع المحلي فهو لا يبدأ قطعا من بداية الأحداث الحالية، بل مع النشوء الهش للدولة السورية كصيغة توافقية بين الدول العظمى، ويحمل ديناميكيات أساسها صراعات طبقية ومناطقية غايتها الحكم وتوزيع الثروة. فدولة الاستقلال التي كان عمادها طبقة ملاك الأراضي وبرجوازية المدن التجارية والصناعية لم تستطع الصمود بسبب عدم قدرة النظام السياسي على بناء توافقات محلية وإقليمية راسخة، فكانت الانقلابات العسكرية التي فسحت المجال لوصول طبقة جديدة للحكم عملت على إعادة توزيع الثروة المتمثلة بشكل أساسي بالأراضي عبر قانون الإصلاح الزراعي.
إلى هنا تبدو الديناميكيات طبيعية لصراع طبقي كان سيؤدي بالضرورة لو استمر ضمن سياقه الطبيعي إلى توازن بين الطبقات في الثروة والحكم، ولكن النظام السياسي الجديد حينها تجاوز مرحلة الوصول للتوازن إلى مرحلة الاستبداد بالسلطة عبر مركزية شديدة في نظام الحكم، ولكنه بالمقابل استطاع تثبيت الاستقرار الداخلي عبر تحالفات قوية على المستوى الوطني مبنية على تحالف السلطة المعبر عنها بالبعث مع رأس المال البرجوازي وخط من رجال الدين بالإضافة للعشائر، وبقي من لم يرض بالتوافق خارج دائرة السلطة وتوزيع الثروة.
عدة عوامل داخلية أدت لاختلال هذا التوازن:
- اختلاف أحد أطراف التحالف الرئيسية: فنتيجة دخول جيل جديد قريب من السلطة إلى عالم الاعمال واعتماد الانفتاح الاقتصادي دون إحداث إصلاح سياسي وبقاء مركزية الحكم، لم تعد البرجوازية التقليدية هي الممثلة الفعلية لقطاع المال بل طبقة جديدة من رأس المال جاءت من رحم السلطة، وبهذا أصبحت السلطة متحالفة مع نفسها ومع خط معتدل من رجال الدين مما أدى لسقوط الاتفاق الذي جنب سوريا الانفجار في الثمانينات.
- سياسات الانفتاح الليبرالية غير المدروسة والتخطيط التنموي غير المتوازن الذي ركز على المدن الرئيسية وأهمل الريف، ما أضر بمصالح الطبقات الوسطى وخصوصاً في الأرياف وجعل أجزاء كبيرة منه تشعر بغبن مزدوج، فهي خارج السلطة منذ البداية نتيجة مركزية التحالفات القديمة، كما أنها خارج دائرة توزيع الثروة والتنمية رغم غناها بالموارد المحلية كإدلب ودير الزور وريف دمشق.
- عدم كفاية دور حزب البعث كصلة وصل بين مطالب الناس ومراكز صنع القرار، فبعدم فاعلية أجهزة الحكم المحلي وفقا للقوانين القديمة في إيصال المطالب والهموم المحلية، واقتصار دورها على الأمور الخدمية، لعب حزب البعث دوراً احتكاريا في التمهيد لصناعة القرار عبر مكاتبه المحلية، وعندما ضعف دور الحزب نتيجة ترهله الإداري دون ايجاد آلية جديدة وفعالة للتواصل مع المحليات ومشاركتها في صنع القرار، أصبح هناك انفصال كبير بين المركز والأطراف، كأحد الأسباب الرئيسية لتدهور الأوضاع.
- العامل الكردي المزمن الذي لم تتم معالجته أبداً، فبقي شعور الانتماء للدولة والمجتمع السوري ضعيفاً عند جزء كبير من الأكراد، نتيجة الغبن برفض إعطاء الهوية وسياسات تعريب الحدود القديمة، ما شكّل أزمة عميقة ضاغطة تم التعامل معها من الناحية الأمنية فقط، فكان أول العوامل تفجراً قبل الأزمة الحالية وأسهلها اختراقاً.
- ضعف مفهوم الهوية والانتماء السوري نتيجة التركيز على الانتماء العروبي الواسع جداً، مما أدى بالناس للبحث عن انتماءات واقعية وعملية يستطيعون التماهي معها فزادت الانتماءات المحلية ووترسخت هويات ماقبل الدولة الدينية أو العائلية خصوصاً في ظل غياب الدور الراعي للدولة نتيجة سياسات الانفتاح. وبدلاً من أن تكون هذه الهويات عامل غنى وتنوع ضمن الهوية الوطنية السورية الجامعة أصبحت أحد أهم أسباب الانقسام المجتمعي.
هذه العوامل وغيرها سهلت على العامل الخارجي تحريك الأوراق الداخلية وتفجير الصراع، ولم يكن كافياً حديث السلطة بأن هذه المواضيع وغيرها كانت موضوع بحث جدي للإصلاح في الأعوام السابقة لتجنيب البلاد الكارثة، فالتأخير وتأجيل إنجاز الاستحقاقات المصيرية لا يجعل المشاكل تختفي من تلقاء ذاتها، بل يؤزم الأمور ويجعلها قابلة للانفجار بشكل أسرع، خصوصاً في ظل عدم كفاية منافذ التظلم والتشكي، وعدم قدرتها على معالجة المشاكل المتفاقمة، وعدم وجود آليات وفضاء سياسي تستطيع فيه الطبقات الاجتماعية التعبير عن نفسها والمشاركة في صنع القرار على المستويات المحلية والوطنية، ومحاولة حل مشاكلها بطريقة دستورية قانونية.
الحاجات المحلية الفعلية- الاستقرار السوري المستدام في خضم المصالح الدولية
تتجه إرادات الدول المعنية بالملف السوري كما ذكرنا سابقاً إلى تطبيق حالة من الاستقرار بناء على توافقات مناطقية بين مناطق خفض التوتر ومناطق سيطرة الدولة السورية، وفقاً لعناوين عامة هي وقف الأعمال العسكرية بين المجموعات المسلحة والجيش السوري، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية والبضائع وضمان حرية حركة المدنيين. هذه العناوين تشكل خطوطاً عريضة، ولا يوجد لها مضمون واضح بسبب تعقيد الواقع السوري، وصعوبة الاتفاق على كل التفاصيل، فالأطراف المتصارعة تفضّل التوافق على الخطوط العريضة بدلاً من الدخول في تفاصيل كثيرة قد تجعل من الوصول للاستقرار المطلوب أمراً صعباً.
هذا الواقع على خطورته يفتح في نفس الوقت فرصة جدية أمام السوريين لملئ فراغ التوافقات والدفع باتجاه تنفيذ برنامج سوري توافقي يطبق على كامل الأراضي السورية، بدون تمييز أو تفضيل بين المناطق، قادر على مقاربة مشاكل الماضي ووضع آفاق ورؤى جامعة للمستقبل. فبعد سنوات طويلة من التجريب في التحديث والتطوير والإصلاح في محاولة للوصول إلى صيغة متطورة للمعادلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا أصبح واضحاً أن المعالجات الجزئية والسطحية تؤدي لنتائج كارثية، وأنها ستنتج بؤر صراع أخرى تعيد إنتاج الصراع الداخلي، وأننا بحاجة لابتكار نظرية ونموذج سوري متكامل قائم على التشاركية الواسعة في اتخاذ القرار، يرسخ الهوية والانتماء السوري، ويحفظ وحدة الأراضي السورية، ويعيد بناء المجتمع السوري ويحقق المصالحة والتماسك بين مكوناته، كما يقدم نموذجاً اقتصادياً يعيد توزيع الثروة ويكون رافعة لجهود التنمية المتوازنة.
الوسيلة الرئيسية لتحقيق ذلك وفي ضوء الظروف الحالية هي بالانتقال إلى الحلول على المستوى المحلي، فهو المستوى الأقرب لحاجات الناس والمعبر عن مشاكلهم، وهو المستوى القادر على تثبيت الواقع السوري المتحرك في ظل غياب أحزاب كبيرة على المستوى الوطني، كما أنه في نفس الوقت المستوى الفعال لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة.
فإذا كان التوجه الدولي هو لتكريس مناطق نفوذ للدول المتصارعة، وترتيب استقرار هش عبر صنع كيانات وممثلين لا جذور لهم ضمن بنية الدولة والمجتمع، فعلينا كسوريين العمل على مواجهة مشاكلنا بشجاعة وجرأة وطرح الحلول الفعلية والواقعية التي تضمن تدعيم الدولة السورية، وتحقق تماسك المجتمع وقدرته على اتخاذ قراراته بدون مركزية تسلطية، وقلب معادلة مناطق خفض التوتر الهشة والمؤقتة إلى برنامج واضح ومستدام يطبَق على كامل الأراضي السورية بدون تمييز ولا تفريق بين المحافظات والأقاليم الاقتصادية.
يتبع