
في مشهد يختصر الكثير مما عاشه السوريون لعقود، تحولت واقعة احتجاج فردية إلى قضية رأي عام، بداية القصة كانت مطلع الأسبوع، حين تعرّض وفد من أبناء محافظة السويداء للاعتقال والحبس في سجن حارم أثناء توجههم لحضور فعالية ثقافية في مناطق الإدارة الذاتية، وبعد الإفراج عنهم، عُقد اجتماع مع محافظ السويداء، وخلاله قامت الناشطة غادة الشعراني بمهاجمة المحافظ وصرخت محتجةً على ما تعرض له الوفد.
سناك سوري-دمشق
هذه اللحظة التي وثقت بتسجيل مصور سرعان ما أشعلت الجدل، لتتوالى بعدها سلسلة من الأحداث التي أعادت فتح ملف قديم جديد النيل من هيبة الدولة.
شكوى قضائية.. والاتهامات جاهزة
لم يمض وقت طويل حتى أعلن المحامي “باسل سعيد مانع” عن تقدمه بشكوى رسمية إلى النيابة العامة في دمشق ضد غادة الشعراني، متهماً إياها بارتكاب عدة جرائم منها، مثل الذم والقدح والتحقير، النيل من هيبة الدولة، إثارة النعرات الطائفية، المساس بالوحدة الوطنية، وكلها تهم كانت تؤدي بالمتهم بها إلى السجون والاختفاء على زمن النظام السابق، ما يجعلها مكروهة من الجميع خصوصاً من ناشطي الثورة القدامى الذين خبروها واتهموا بها.
وطالب مانع باتخاذ إجراءات مشددة بحق الشعراني، وصولاً إلى إلقاء القبض عليها ومحاكمتها أمام المحكمة الجزائية، مع المطالبة بتعويض مادي.
من يحمي هيبة المواطن؟
الشكوى المقدمة ضد غادة الشعراني أثارت ردود فعل متباينة وغاضبة، حيث اعتبر المدقق ومحرر المعلومات في منصة “تأكد”، “نجم الدين نجم” أن المفارقة تكمن في أن بلداً خرج للتو من نظام ديكتاتوري دموي، ما يزال يعيد إنتاج نفس أدوات القمع تحت شعارات جديدة، قائلاً: «غريبة هذه البلاد.. مفجع وعجيب هذا العشق والهيام بالمتسلطين والسفاحين والجبابرة، إلى درجة تشعر وكأن هذه الأمراض جزء من شفرتنا الجينية وحمضنا النووي».
الناشط “رامي فيتالي” ورغم أنه أبدى استهجانه لطريقة الحديث التي اعتمدتها غادة الشعراني، لكنه رفض تسجيل دعوى ضدها، مستشهداً بتجاربه الشخصية مع القضاء بتهمة النيل من هيبة الدولة عندما انتقد تجاوزات أمنية.
ليؤكد أن مثل هذه الدعاوى تستخدم أحياناً كوسيلة إسكات لا كمسار عدلي حقيقي، وقال: «أتمنى من القضاء إبراء وإخلاء سبيل السيدة الشعراني فوراً ومنع محاكمتها، هكذا فقط أتيقن أن النهج العدلي في سوريا قد تحسّن اليوم عما كان عليه أيام نظام الأسد».
الحرية لا تتجزأ
الصحفي “حازم داكل”، تساءل عن معنى “هيبة الدولة” التي تبنى على خوف المواطنين وصمتهم، قائلاً: “هل الحرية حلال على بعض السوريين وحرام على آخرين؟”
وأضاف أن تصرف غادة الشعراني هو ردة فعل على انتهاكات تعرض لها وفد مدني، معتبراً أن التوقف عند صرخة الاحتجاج دون معالجة أسبابها هو إعادة إنتاج للقمع وإن اختلفت الشعارات.
“داكل” قال: «نحن الذين خرجنا في 2011 مطالبين بالحرية، هل نسينا أن الحرية لا تُجزأ؟ لا توجد حرية ضد نظام الأسد وحرية أخرى ضد “جماعتنا”.. الحرية حرية… والاستبداد استبداد، من أي جهة كانت!»
ورأى أن «الحرية التي تُقص وتُفلتر لتناسب “هيبتنا” أو “جماعتنا” أو “موروثنا” ليست حرية، بل نسخة لطيفة من القمع! فيا من تطالبون بمحاكمة غادة لأنها صرخت.. اسألوا أنفسكم أولاً: مالذي جعلها تصرخ؟».
تساؤل عن الأولويات
رئيسة قسم البودكاست في العربي الجديد، “هزار الحرك” توجهت بسؤال مباشر إلى المحامي باسل مانع: «هل ستتقدم بشكاوى ضد من انتهك أجساد المواطنين وكراماتهم، أم أن الدفاع عن هيبة الدولة يبدأ وينتهي عند ملاحقة الأصوات المحتجة؟»، منتقدة انتقائية العدالة وانحيازها لصالح السلطة على حساب الضحايا الحقيقيين.
“هيبة الدولة”: نصوص فضفاضة أم أدوات لقمع التعبير؟
تعيد هذه الحادثة إلى الواجهة الجدل الطويل حول مفهوم “هيبة الدولة” في القانون السوري، فبين المواد (285 – 288) من قانون العقوبات، والمادتين (28 – 29) من قانون الجرائم الإلكترونية، يظهر بوضوح وجود نصوص تتحدث عن حماية هيبة الدولة وهويتها الوطنية، لكنها جاءت فضفاضة وعرضة للتأويل، مما جعلها أداة بيد السلطات لملاحقة المعارضين والمنتقدين.
ولم يقتصر أثر هذه النصوص على الناشطين السياسيين فحسب، بل امتد ليشمل الصحفيين والإعلاميين أنفسهم، تحت ذريعة “النيل من هيبة الدولة”، ما أدى إلى حالة من الرقابة الذاتية والخوف من التعبير عن الرأي.
في التطبيق العملي، غالباً ما تفتح هذه النصوص الباب أمام التوظيف السياسي والمزاجي، أكثر مما تحقق حماية حقيقية لكيان الدولة ومؤسساتها.
بينما يتطلب الانتقال نحو دولة مدنية تحترم الحقوق والحريات إعادة النظر بجدية في مفاهيم “الهيبة” و”الوطنية”، لا تزال بعض الممارسات تؤكد أن الطريق طويل وشائك، فالحرية لا تُجزأ، والكرامة لا تُختصر في نصوص مبهمة، بل تُبنى على احترام صوت الناس، لا إسكاتهم كلما رفعوا صوتهم عالياً احتجاجاً.