المهتمون بالشأن العام في سوريا: الواقع والمثاليات _ فراس سلمان
القانون رقم 3 الذي يغير مفهوم القطاع العام.... وعرس في قلعة دمشق وبطاقة ذكية
إذا كنت ممن استفزهم إجراء عرس في قلعة دمشق وعبّرت عن صدمتك ممن تجرأ ومنح الموافقة على حدوث ذلك نظراً لتاريخ القلعة وخصوصاً رمزيتها. فقد فاتك على الأقل معلومة أن استئجار أي موقع تاريخي في “سوريا” هو إجراء رسمي متبع وليس بجديد.
سناك سوري _ فراس سلمان
نعم إنه مجرد طلب استثمار إلى مديرية الآثار التي تنظر في موافاة الطلب لشروط معينة. وعلى هذا الأساس تقام مناسبات في مختلف الأوابد التاريخية ومنها الأعراس. كما أن ذات الأمر يحدث في مختلف أنحاء العالم بما في ذلك إقامة زفاف حفيدة مسؤول سوري سابق بدار الأوبرا في “باريس” قبل سنوات.
وللعلم فقد كنت شخصياً ممن انتقدوا عرس القلعة نتيجة إطلاق الألعاب النارية بعد منتصف الليل. والتي أيقظت من شدة انفجاراتها سكان العاصمة مذعورين، ولا زلت أدعوا لإيقاع أشد العقوبات بحق منظمي الحفل، فبنظري هذا هو الأمر غير المسبوق وغير المسموح.
المثالية والواقعية
المثالية هي رؤية الأشياء بالطريقة التي يريدها المرء حتى لو لم تكن كذلك في الواقع. وهي عكس الواقعية أي رؤية الأشياء على ما هي عليه في الحقيقة وفي الواقع.
بمعنى أنّ المثالية تُركز على ما يُمكن أن يكون، بينما تُركز الواقعية على ما هو موجود في الواقع وفي الوقت الحالي بالفعل. ومن هنا فإذا أسقطنا هذه المفاهيم على الشؤون العامة المطروحة على وسائل الإعلام والتواصل، نرى أن لدينا العديد من الأمثلة حول قضايا حياتية انقسمت الآراء حولها بين مثالية وواقعية.
من أهداف قانون الكهرباء رقم 32 التي تم إبرازها على صفحة الوزارة هو “السماح للقطاع العام وللقطاع المشترك وللقطاع الخاص الوطني والمحلي والعربي والاجنبي بالاستثمار في مجالي التوليد والتوزيع” فراس سلمان
فإذا بدأنا بموضوع مثل البطاقة الذكية فإننا نستطيع ملاحظة الانقسام حولها على مستوى عربي فمثلاً شاعر العامية المصري الكبير “عبد الرحمن الأبنودي” ألّف قصيدة بعنوان “رغيف ع البطاقة” يستنكر فيها فكرة البطاقة. بينما نجد ناشطين ونواب عراقيين رحبوا بالفكرة وأبرزوا مزايا اعتماد التقنية الحديثة في توزيع المواد المقننة.
البطاقة الذكية في سوريا
أما في “سوريا” فقد أصبحت البطاقة الذكية مثار تندر الأغلبية لدرجة أنها استخدمت في النكات وفي الكثير من “البوستات” الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا زلت أذكر نقاشي مع صديق وهو مهندس متقاعد كان قد كتب نقداً لاذعاً على فيسبوك عند اعتماد البطاقة الذكية. فقمت بالتعليق مشيراً إلى جانب آخر حيث أخرجتنا البطاقة من حلقة مفرغة في توزيع المواد. فأنا شخصياً حرمت من الحصول على البنزين عدة أشهر لأن المتاجرين بالمادة كانوا يعملون مسبقاً بالمحطة التي ستحصل على الوقود ويصطفون عند بابها. بينما ألغت البطاقة هذه الظاهرة وأصبح الجميع متساوون بالكمية لا بل ويحصلون على مقننهم بكل يسر. فردّ عليّ الصديق بأن من واجبات الدولة ومؤسساتها أن تكفل حصول هذه العدالة بدون بطاقة من خلال المراقبة الدقيقة والمتابعة لكل مراحل التوزيع. طبعاً انتهى نقاشي هنا مع الصديق وأنا أقول في نفسي: أليس من “الواقعية” أن نقول أن البطاقة هي الطريقة الأقل تكلفة والأدق لتوزيع المواد المقننة.
وللتنويه فهذه الإضاءة على إيجابيات التوزيع الالكتروني للمواد المقننة لا تعني بأية حال الدفاع عن تعهيد مشروع البطاقة الذكية للقطاع الخاص ولا عن طريقة تلزيم العقد وشروطه.
هل المهتمون بالشأن العام مُغرِقون في المثالية؟
دوّن صديق صحفي وحقوقي قبل فترة وجيزة على فيسبوك متسائلاً عن معنى دخول القطاع الخاص في مجال إنتاج وتوزيع الكهرباء؟. مردفاً بأن بلدنا لغز عصي على الفهم، مما يوحي للقارئ بوجود مفاجأة وتحول غير مفهوم في عمل الدولة ومؤسساتها.
ولكن المفاجأة الفعلية أن من أهداف قانون الكهرباء رقم 32 التي تم إبرازها على صفحة الوزارة هو “السماح للقطاع العام وللقطاع المشترك وللقطاع الخاص الوطني والمحلي والعربي والاجنبي بالاستثمار في مجالي التوليد والتوزيع”. وأن هذا القانون صدر قبل الأزمة السورية تحديداً في عام 2010.
ومن الملاحظ أن أغلب المواضيع التي تدفع حتى بعض المحسوبين بشدة على الموالاة أن يعبروا عن استنكارهم ودهشتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. تتعلق بقضايا القطاع العام والحركة المتسارعة لإدخال القطاع الخاص في نشاطاته، ومن أقرب الأمثلة على ذلك عقد الشراكة الذي تم توقيعه بين السورية للطيران وشركة خاصة وهو عقد يقال به الكثير ولو أنه تم في أي بلد لكان نال الكثير من الاهتمام والنقاش الإعلامي والاقتصادي والنقابي والرقابي والسياسي (خاصة البرلماني) وربما القضائي…. الخ. وذلك لأن قضية المال العام في الغالبية العظمى من دول العالم تحظى بالأولوية القصوى في الشأن العام. فتطرح عادة مواضيع مثل الجدوى وضمان الشفافية وتكافؤ الفرص والتنافسية وسلامة ومشروعية إجراءات العقود.
لكن الحاصل عندنا غالباً هو العكس تماماً فقد تم توقيع عقد الشراكة هذا دون أي رد فعل من هذه المكونات والهيئات الدستورية. وفي المقلب الآخر تسبب بسيل من الدهشة والاستنكار من ناشطي الشأن العام الذين يرون في القطاع العام حالة قدسية لا يجوز المساس بها.
تماماً مثلما حصل مع كل عقد شراكة أبرم منذ صدور قانون التشاركية عام 2016 والذي يشكل الأساس القانوني لعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فالجميع تقريباً لم يناقش الموضوع باعتباره واقعاً قانونياً منذ سنوات.
ماذا عن القانون 3 لعام 2024
إذا كانت أمنيات المهتمين بالشأن العام هي ألّا يسمعوا بعقد شراكة آخر بين القطاع الخاص والقطاع العام حفاظاً على القطاع العام بشكله الحالي،. فإني أبشرهم بصدور القانون الذي سيغير هذا الشكل وهو القانون رقم 3 لعام 2024, والذي يقدم صيغة جديدة لإدارة القطاع العام الاقتصادي من خلال إحداث شركات عامة مساهمة وشركات قابضة عمومية وشركات مشتركة في كل القطاعات الاقتصادية وتنظيم إدارتها.
آخر ما يلزمنا هو المزيد من التفكير المثالي المنفصل عن التطورات القانونية المتعلقة بالقطاع العام. أما أول ما يلزم فهو انخراط المهتمين إلى جانب المؤسسات السياسية والبرلمانية والاقتصادية والنقابية بدورهم الحقيقي في متابعة الملف وتقويمه وقيادته إلى النتائج الإيجابية المرجوة، والتي ربما تكون هي نفسها النتائج ” المثالية ” . فراس سلمان
وأعتقد أن الصيغ القانونية للشركات العامة في هذا القانون مشابهة لما انتهت إليه “الصين” بعد مسيرة طويلة من إصلاح القطاع العام والتي كانت من أهم المحاور التي عملت عليها الدولة والحزب الحاكم في “الصين” لعقود. فيما وصلنا إليه بعد تخبط طويل في تجارب غير مجدية وبوضع اقتصادي غير ملائم، وفي ظل ضبابية في توجهات الحزب وقدرات الحكومات.
وبالتالي فإن آخر ما يلزمنا هو المزيد من التفكير المثالي المنفصل عن التطورات القانونية المتعلقة بالقطاع العام. أما أول ما يلزم فهو انخراط المهتمين إلى جانب المؤسسات السياسية والبرلمانية والاقتصادية والنقابية……الخ بدورهم الحقيقي في متابعة الملف وتقويمه وقيادته إلى النتائج الإيجابية المرجوة، والتي ربما تكون هي نفسها النتائج “المثالية”.