الطقوس الدينية والطبيعة السورية القائمة على التنوع – حسان يونس
يقول السوري ملياغر في مقطوعته التاريخية: إننا نسكن وطنا واحداً هو العالم
سناك سوري-حسان يونس
تحتفي مناطق واسعة من الريف السوري في 6 كانون الثاني (وفق التقويم الغربي) وفي 20 كانون الثاني (وفق التقويم الشرقي) بعيد القداس وهو على صلة بتعميد السيد المسيح بنهر الأردن.
قبل هذا التاريخ، وخلال شهر مضى، احتفت مناطق واسعة واثنيات مختلفة في سورية بأعياد الغطاس، والبربارة، والقوزللي، التي ترتبط شكلا بالمسيحية وتحتفي بها جماعات دينية واثنيه مختلفة مسيحية وغير مسيحية وفق التقاويم الشرقية والغربية .
ما يهمّنا أن الساحل السوري الذي يحتفي بهذه الأعياد، إنما يمارس احتفاءَه الطقوسي بها بلا وعي وبفطرية تامة، واللافت أن الأطفال الذين كانوا يخرجون لترديد أناشيد الاستسقاء في عيد البربارة (استمر هذا الطقس حتى السبعينات لدى عدة طوائف في عدة مناطق)، وأن النساء التي تعد “الهريسة” في عيد البربارة و”الكبيبات” في عيد القداس والغطاس ليس لديهن أي وعي بالخلفية التاريخية والدينية لهذه الأعياد، إنه فقط التراكب الحضاري الذي يجمع عدة خيوط من عدة اعتقادات وأساطير وديانات، وينسجها في سجادة واحدة تختلف ألوانها ونقوشها، وتمتد فوق هذه الجغرافية التي تتلقف الرواسب من هذا الدين وذاك الاعتقاد وتعيد تشكيله في الشخصية السورية، التي تمتاز وبحقّ أنها أول مواطن عالمي شهده التاريخ، حيث تنتفي أمام انفتاحها الحدود الجغرافية والاعتقادية، وتبقى الروح الإنسانية الحرة، وفق قول الشاعر السوري “ملياغر” الذي عاش في صور في القرن الأول للميلاد:
«أنا ملياغر ابن اوقراطس، نشأت مع عرائس الشعر، وكانت أولى خطواتي برفقة إلهة الحب…. فيا أيها الغريب هل من عجب إذا كنت سوريّا؟!…. إننا نسكن وطنا واحدا هو العالم… خواء واحد أنجب جميع الأحياء الفانين».
وفي مقطوعة أخرى نقشت على قبره يتكرّس المعنى العالمي ذاته: «سر أيها الغريب بدون ضجيج، فملياغر الشيخ يرتاح مع الأخيار في سبات حقيقي، قضى فتوته في صور الإلهية، وفي أرض غادارا المقدسة، إذاً إذا كنت سوريا لك السلام، وإذا كنت فينيقيا لك الود، وإذا كنت إغريقيا فالخير لك».
اقرأ أيضاً: لماذا ندرس تاريخ “صلاح الدين الأيوبي” على حساب تاريخ “ابن سينا”؟!
إن هذا الانفتاح على كافة الثقافات والاحتفاء بها كما يعبر عنه ملياغر، نجده كذلك في أساسات الجامع الأموي التي يترسب فيها اعتقاد السوريين بالإله حدد عندما كانت دمشق عاصمة الآراميين، ثم بالإله جوبيتر عندما خضعت للرومان، ثم بالمسيح عندما انتشرت المسيحية، ثم بالإسلام عندما انتشر الإسلام.
وهو انفتاح يعبر عنه كذلك الأمر إحياء الطوائف الإسلامية المختلفة في الساحل السوري للأعياد المذكورة أعلاه ذات الصبغة المسيحية الواضحة كما يعبر عنه إحياؤها لعيد “الرابع” الذي يقال إنه تحوير لفظي لعيد الربيع، الذي يحتفي به السوريون منذ اكتشاف الثورة الزراعية وسطوة عقيدة الخصب قبل آلاف السنين، ولا تزال الطوائف الآشورية تحتفي به في شمال شرق سورية وفي شمال العراق، تحت مسمى رأس السنة السورية (بدء الانقلاب الربيعي “اكيتو”) بينما استمر إحياؤه في احتفالات جماعية حاشدة في الساحل السوري حتى السبعينات، إضافة إلى عيد النيروز، الذي لايزال يُحتفى به دينياً لدى بعض المذاهب في الساحل السوري، بالتوازي مع احتفال الأكراد والفرس به، باعتباره رأس السنة (بدء الانقلاب الربيعي المعتمد في شرق الهلال الخصيب).
إن متابعة هذه السلسلة من التلاقح الحضاري لدى الشخصية السورية، لا يمكن إيجازها في مقال وإنما تحتاج الكثير والكثير من الدراسات، إلا أنها مهما امتدت أو تقلصت ستظل تشير إلى حقيقة ثابتة، وهي أن الطبيعة السورية لا تحتمل التطرف والأحادية، بل تعتاش وتتغذّى على التنوع، وهذه الحقيقة يجب أن تكون ماثلة أمام أعين صنّاع القرار والقوى الفاعلة، لأن كل المتطرفين والأحاديين الذين جاؤوا إلى سورية سيتلاشون بشكل أو بآخر، وستلتهمهم خصوبتها، كما أن المتطرفين والأحاديين الذي جرت تربيتهم بعناية وتقنيات خاصة ضمن حواضن خاصة في سورية سيرحلون عنها ليمارسوا تطرفهم في مكان آخر من العالم.
اقرأ أيضاً: إراقة دم المدنية السورية بسيف البداوة- حسان يونس