الرئيسيةحرية التعتيريوميات مواطن

الستر هو رأس مال كل من بقيّ هنا

إنه لمن التعاسة أن يصرف المرء حياته في هذه البلاد كبالغ

سناك سوري – عابر

كان نهار البارحة متعباً، لربما هي المرة الأولى التي أزور بها مركز المحافظة منذ عشر سنوات، وقفت على الطريق أنتظر سيارة عابرة أتعلّق بها، فأنا أسكن في هذه المنطقة النائية منذ أكثر من ثلاثة عقود، هي هي لم تتغير، فلا يبرر أحدهم اليوم ليقول أن الحرب هي السبب في هذه (الشنططة).

باص النقل الوحيد الذي يقلّ الطلاب والموظفين للمحافظة يبدو أن لا مكان لمؤخرتي الناحلة فيه، أشرت له بيدي ليقلّني معه، ثم ركضتُ خلفه كالأهبل، لكنه لم يتوقف، لهذا تعلّقتُ في مؤخرة إحدى السيارات العابرة والمكشوفة، جلستُ على أرضية السيارة، كانت حرارة الصفيح تذيب ما بقي فيَّ من شحوم.

في الطريق صعد شاب أشقر، يرتدي طاقية سوداء للوراء، مع وحمة حمراء على طرف عينه، لم يتحدث معي أبداً، حتى أنه لم يلقِ السلام، فأنا لم أتعرّف على غرباء منذ سنوات، قلت في نفسي لربما تغيرت العادة ولم يعد يتحدث الغرباء مع الآخرين كالسابق، رحت أراقب المكان، تلال كثيرة وطرق ومفارق، في كل مكان هناك لي ذكرى مع أحدهم، لكم سرت هنا قبل الحرب مع أصدقائي، أين هم الآن، ماتوا أو رحلوا أو دفنتهم المعيشة القاتلة ولم أعد أراهم.

بعد قليل صعدت سيدة بدوية وابنتها الشابة، جلستا على الفور على الأرض أمامي، أعادت الأم تشغيل سيجارتها، نظرت إلي ثم ابتسمت حتى تكشّفت أسنانها الأمامية النخرة، ألقى الشاب ذو الوحمة نظرة ماكرة على الفتاة ثم تربّع هو الآخر على أرضية السيارة ودار حديث طويل بينهما، كان ينصحها بترك التدخين، وكانت تنصحه بالهجرة، تحدثا طويلاً عن الغلاء وعن جفاف الينابيع والآبار وعن ارتفاع أسعار الأعلاف، ثم تحدثت ابنتها عن ظاهرة الزواج أثناء النزوح، حيث تزوجت وهي نازحة ولم تأخذ من حقوقها شيئا لا غرفة نوم ولا لباس ولا حفلة. ثم سخرت تلك الفتاة من عبارة أمها القائلة “أهم شي الستر”.

أين هم أصدقائي، ماتوا أو رحلوا أو دفنتهم المعيشة القاتلة ولم أعد أراهم

عند أحد المفارق ترجل الشاب من السيارة قام بغمز الفتاة بعينه وغادر. رجفت السيدة وبدا الخوف عليها، ثم نظرت إليّ وسألت بخوف بادٍ: (بتعرف هالشب؟) أخبرتها أنه عابر مثلي، فصفقت يداً فوق يد، ثم فضحت لابنتها عن مخاوفها (ليكون متل عويدل الفساد؟)، ردت البنت بضيق (شو بعرفني، إنتي بلشتي تحكي عن الغلا، بلكي طلع متل عويدل فعلاً). تغيّر لون المرأة ثم أشعلت سيجارة أخرى، ترجّلت من السيارة ثم ألقت إلي ابتسامة تعبة (إستر ما شفت منا يا ابني).

الستر هو ما يبحث عنه من بقوا هنا، الستر من الفضيحة ومن النفي ومن الجوع، إنه رأس ما نملك. لربما لهذا السبب يردد السوريين تلك العبارة المكررة حين يسألهم أحدهم عن حالهم اليوم ليأتي الجواب: (مستورة والحمدلله).

اقرأ أيضاً: الحياة الهادئة نعمة – شاهر جوهر

ضغط سائق السيارة على المكابح فصعد أربعة شبان آخرون، لكنهم كانوا مختلفين، إذ كانوا يشعون شباباً وحياة وحركة، يضحكون ويقفزون كالنابض وسط السيارة.

طول المسافة جعل أحد أولئك الشبان يدندن بصوت جميل، ومَن دندن في العرف المحلي فقد أطرب. علا صوته بقليل، حتى علقت أغنيته في رأسي:
أذوب واشرب حبوب
و إذا سارو ما أتوب
وعمي يابو البار
تصبلي لبلبي
تراني سكران وصاير عصبي

تفاعل الشبان البقية مع أغنيته، باتوا يصفقون وينقرون على شِباك السيارة ويغنون سوياً:

هاذي البلد عضروطي
هاذي البلد بعروري
ومش واثق بزروري
أنا وياك .. يا أم شامة

دخلت السيارة مركز المحافظة، راح الشبان يغازلون الفتيات العابرات على الطريق، توقفت السيارة عند إحدى الإشارات، على الرصيف وقفت مجموعة من الفتيات فراح يغنّي الأربعة لهنّ بصوت جميل:

بنت عمي سودة وسمينة
طبّتلي المطبخ سمينة
تاكل فلافل سمينة
وقلبي على قلبك غده
خلاني أبات بلا عشا
أنا وياك .. يا أم شامة

حين توقفوا عن الغناء، صاح سائق السيارة وطلب منهم مواصلة الغناء، فأكملوا:

وأنتي بسطح وأنا بسطح
والليلة نبطح بطح
أنا وياك .. يا أم شامة
وانتي بتكسي و أنا بتكسي
والليلة نلبس مكسي
أنا وياك .. يا أم شامة

تفاعل صاحب السيارة مع الشبان وأخذ يطلق زمور سيارته طرباً، بعد عدة أمتار توقفت السيارة عند مبنى الهجرة والجوازات، ترجل الشبان الأربعة وركضوا يحجزون دورهم خلف العشرات ممن يرغبون في قطع جواز سفر.

منذ البارحة وأنا أدرك أنه لمن التعاسة أن يصرف المرء حياته في هذه البلاد كبالغ. ومنذ البارحة وأنا أدرك أنه في هذه البلاد لا فرق بين أن تسافر وبين أن تُسفّر، بين أن ترحل أو تُرحّل وبين أن تهاجر أو أن يتم تهجيرك. ومنذ البارحة وأنا أدندن تلك الأغنية العالقة في رأسي (هذي البلد عضروطي – هذي البلد بعروري).

اقرأ أيضاً: إفراغ البلاد من عمالها.. سافروا بحثاً عن عمل براتب جيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى