الساعات الأخيرة في حلب .. ليلة تغيّر كل شيء
رحلة الخروج من حلب .. ومخاض سوريا الأخير
مرّت ساعاتنا الأخيرة في “حلب” كأنها كابوس أو برزخٌ رهيب بين حياتين إحداهما كانت قبل ساعات وأخرى سيتغيّر فيها كل شيء خلال لحظات.
سناك سوري _ زياد محسن
عند الرابعة عصر الجمعة كانت الأخبار تتهافت كأنها بركان تثور حممه من باطن الأرض. بينما كان الناس تائهين بين مصدّق ومكذّب للخبر ونفيه. في وقتٍ تتوارد فيه أسماء الأحياء التي وقعت تحت سيطرة “جبهة النصرة“ تباعاً وتنتشر المقاطع المصورة لدخول عناصرها إلى مناطق لم يتوقّع أحد أن تطأها أقدامهم.
على الرغم من عدم سماع أصوات اشتباكات قوية أو معارك محتدمة فقد تغيّرت خارطة السيطرة خلال ساعات قليلة. أو تغيّر كل شيء تماماً في تلك اللحظات، ولم يكد يحِن غروب الجمعة 29 تشرين الثاني 2024 حتى كانت “حلب” قد تغيّرت بالكامل وأصبحت مدينة تحت سيطرة “النصرة”.
خلال ساعات الليل كانت أصوات عناصر “النصرة” تصل إلى المنازل بصيحات التكبير بينما التزم السكان بيوتهم على وقع الخوف والترقب وأعلنت “النصرة” حظر تجول حتى الثامنة صباح السبت.
مع بداية الصباح كان عناصر “النصرة” قد انتشروا في معظم الأحياء لا سيما الغربية منها ونشروا حواجزهم بحثاً عن العسكريين الذين لا يحملون هويات مدنية. وشاهد الأهالي جثثاً في الشوارع لعسكريين تركهم عناصر “النصرة” مرميين على قارعة الطريق وقاموا بتصوير جثثهم.
رحلة الخروج من المدينة لم تكن بالأمر السهل. إذ تعرّضت سيارات مدنية لرصاص قنص في بعض المواقع دون سابق إنذار. في حين كانت جموع غفيرة من الناس تتجه نحو طريق “خناصر” الذي أصبح المنفذ الأخير للخروج من “حلب” بعد انقطاع الطريق الدولي إلى “دمشق” منذ الخميس.
بعد العبور إلى ريف “حلب” نحو “تل عرن” وصولاً إلى “السفيرة” كانت أعداد كبيرة من المدنيين والعسكريين تتجه نحو طريق الخروج الذي يمر بالبلدة. فيما كان بعض أهالي المنطقة يوزعون مياه الشرب وبعض وجبات الطعام على المارّة لتخفيف عبء الطريق.
مع تجاوز “السفيرة” سيصبح الطريق أضيق وأعداد السيارات أكبر لكن المشهد المفاجئ لن يبدأ إلا عند الوصول إلى حاجز “أثريا” حيث تجمعت آلاف السيارات بمشهد رهيب يذكّر بقيامةٍ ما.
جموع السيارات على طريق ضيق دفعت كثيرين للجوء إلى السير على الأطراف الترابية للطريق من أجل الوصول إلى الحاجز. حتى هذا الخيار احتاج لساعات من أجل تجاوز المنطقة وقد وصل الانتظار إلى أكثر من 16 ساعة للسيارات المحمّلة بالمدنيين وشاحنات كبيرة إضافة لسيارات إسعاف تحمل عسكريين بما فيهم المصابون المتجهون إلى “سلمية” حيث يوجد أقرب مشفى إلى “حلب”.
ساعات انتظار طويلة ستكون شاهدة على مأساة غير مسبوقة من النظرات الخائفة والأطفال الذين يئنّون تحت البرد والجوع في منطقة خالية من أي مظاهر حياة. بينما يملأ الصراخ الأجواء ليزيدها رعباً وتحلّ ساعات الليل لتضيف المزيد من الخوف على المشهد.
مع تجاوز “أثريا” والتوجّه إلى حاجز “السعن” ومنه إلى “سلمية” كان الفجر قد اقترب بينما لا يزال عشرات الآلاف ينتظرون لحظة الخروج تلك. في وقتٍ بدأت فيه حالات قنص وسقوط قذائف على الطريق ما أدى لانقطاعه.
لقد تغيّر كل شيء. في مشهدٍ مذهل لم يتوقّعه أحد ولم يتخيّله إنسان، لكنها حكماً اللحظة التاريخية الحاسمة التي سيتغيّر إثرها مشهد “سوريا” كليّاً وستتغيّر معها كل المفاهيم والقيم والمعتقدات والأفكار. وربما تكون مخاضاً أخيراً لبلادٍ دفعت الثمن آلاف المرات.