التمييز الجندري – ناجي سعيد
تنهرني حماتي وتقول: «شو عم تعمل يا عمّي، روح قعود مع الرجال ونحنا النسوان ……
سناك سوري – ناجي سعيد
كثيرًا ما سمعت والدتي تقول:«جيل بو ضرسين، بياكل ما بيشبع، بتحكيه ما بيسمع، بتبعته ما بيرجع، وبتضربه ما بيوجع»، وكانت هذه المقولة تأتي ملازمة لمجابهة رفض مني أو من أخي لتلبية طلب خدمة من الأهل، وغالبًا ما كان الرفض مُبرّرًا بانشغالنا بالدرس أو بإنجاز وظيفة مدرسية.
هذا الرفض هو حقّ تربوي للأطفال وتحديدًا المُطالَبين من الأهل بتلبية طلبات كثير قد تؤثّر على إنجاز يُعتبر من الأولويّات عندهم، فقد كان الأهل يتباهون أمام الآخرين عند تفوّق أبنائهم في المدرسة، وكانت مشكلتنا أخفّ بكثير من مشاكل الناس القرويين، حيث نشأنا في قرية، ينتمي أهلها إلى مُجتمع زراعي. ومن الواضح سيطرة التمييز الجندري ( بين الصبي والبنت) في هذا المجتمع القروي. حيث المُعتقد السائد- وامتداده تاريخي في هذا المجتمع- حيث تغيب ثقافة حقوقيّة تعدُل بين الجنسين. فالصبي يتعلّم “ليفكّ الحرف”، فيصبح متمكّنًا من القراءة والحساب كي يستلم إدارة عمل والده، أضف إلى أن بُنيته الجسدية تساعده في معونة العائلة في أعمال الزراعة والحصاد وجني المحصول، ثُمّ بعد ذلك، إتمام عملية البيع والشراء والحسابات المالية.
اقرأ أيضاً هل ذبحت لكم أمهاتكم طير الحمام لكي تناموا؟ – ناجي سعيد
وقد كانت البنت حينها (وبحسب المعتقد التقليدي) لا تذهب إلى المدرسة، بل تبقى في المنزل تتعلّم من والدتها شؤون التدبير المنزلي (طبخ وتنظيف وما شابه)، فمن جهة تساعد أُمّها ومن جهة أخرى تتحضّر للعريس القادم، لتكون ربّة منزل وأمّ، لكنّ للأسف لا تفقه في أمور التربية. فتُتقن ما تتعلّمه من والدتها، وهي بدورها تحرص على تعليم ابنتها، وهكذا دواليك..
هذه التقاليد برأيي تُعتبر المسامير التي يدقّها المُجتمع في نعش التربية اللاعنفية. وأقول تربية لاعنفية، انطلاقًا من أول فكرة تُعتبر من دعامات وأساسيّات التربية اللاعنفية، ألا وهي المساواة، فما كنت أذكره عن عائلتي التي تميّزت بزرع بذور اللاعنف في أبنائها، كان أساسه مساواة آمن بها والدي الذي لم يتعلّم في المدرسة لكنّه تعلّم القراءة والكتابة في كبره، وكان عصاميًّا في تكوين ثقافة عالية، فقد حرص على تعليم أبنائه السبعة ذكور وإناث. وقد اكتسبنا دون أن نشعر الفرق حينها، أننا نؤمن بعدالة تربيّنا عليها ومُورست أمامنا في المنزل.
لكن لاحقًا، حين انطلقنا لاستكشاف المجتمع، كانت المعركة، حيث تمنعني التقاليد الاجتماعية السائدة من ممارسة قيم إنسانية أراها صحيحة وقَيّمة في عائلتي الصغيرة، والثغرة أنّ الدائرة الأكبر (المجتمع) لم يكن مشابهًا لمحيطي الصغير. أذكر هنا حين قرّرت الإرتباط بزوجتي، وكنّا في فترة الخطوبة، وفي “عزومة غدا”، بادرتُ إلى مساعدة حماتي وخطيبتي وأخواتها “بلمّ” الصحون عن المائدة، فما كان من حماتي إلاّ أن نهرتني قائلة:«شو عم تعمل يا عمّي، روح قعود مع الرجال ونحنا النسوان منضبّ ومنجلي».
فاستغربت وأجبتها:«هذا ما أفعله في منزل عائلتي، ولا أجد عيبًا في ذلك”. وبالطبع قبلوا لمرة واحدة هذا السلوك وعلى مضض، فقط كي لا يسببّوا لي الإحراج».
ورحلة التمييز الجندري طويلة في مجتمعنا. وقد كنت أتعجّب من الكثير من “الصبايا” اللواتي يتعرضّن للظلم الجندري (بين صبي وبنت) كيف يرضخون وهم قابلون الظلم؟ وأظنّ أن غالبية الحالات ضعفهم مُكتسب، فمن المُستحيل أن نجد حالة فتاة فردية تُسجّل اعتراض على هذا الظلم الجندري. ولو أنّي أؤمن بأن الحركات النسوية في الوطن العربي بدأت من حالات فردية ونضجت لتُشكّل حملة مناصرة في المجتمع، وأشهرها حملة “كفى” عنف ضدّ النساء. وحملة “مش قبل ال18” لتحديد سنّ زواج قانون يبدأ من الثامنة عشر.
ومن أهمّ المصادر التي توثّر سلبًا على مفهوم المساواة الجندرية، “الإعلام”، فالتلفاز هو النافذة المليونية، التي تبثّ سمومًا في عقول الناس في كُل منزل. والأذية هذه لا تميّز بين فئة وغيرها والفئة على أنواعها (عمر، جنس، جنسية، دين..). والحلّ لهذه المشكلة (إجرائيًّا) هو وجود رقابة (قانونية تربويّة إنسانية) دورها وضع “فلتر” لرفض كُلّ السُموم التي تُبثّ، ليحلّ محلّها قيمًا تساهم في صنع جيل مختلف عن جيل أنتجه المجتمع خلال القرون الماضية، وإلاّ ما الفرق بين الجيل القديم في هذا المجتمع، وجيل “الآيباد والسمارت فون”.
مواكبة التطوّر لا تكون “شكلية”، فكيف نحقّق مهارة التواصل واحترام الآخر بجهاز حاسوب أو هاتف ذكي؟ كُل التقدير والإحترام للأجهزة التي اخترعها الإنسان لخدمته، وليست لعزله منفردًا في زنزانة الأجهزة التكنولوجيّة بحجّة مواكبة العصر.
مواكبة العصر لا تكتمل إلاّ بقيمة احترام الإنسان وتقدير إنجازاته، فأي تكنولوجيا بلا إنسان لا يُعوّل عليها.
اقرأ أيضاً: إنسان..موهوب – ناجي سعيد