التمرد على الطاعة في لبنان… ناجي سعيد
المجد للمتمردين على طاعة الاستبداد والظلم
سناك سوري – ناجي سعيد
لا يمكننا القول بأنّ الخلاف التاريخي بين الفلسفة والعلم قد انتهى. فقد كان الحلّ آنذاك والآن، بفصل المسارين، ويبدو أن التطوّر العلمي وتحديدًا، التوغّل في دراسة الدماغ البشري ووظائفه، قد سهّلت الطريق ليعرف الناس بأهميّة كل مسار في تعزيز تطوّر حياة البشرية بأكملها، كان “المُتعلّم” في العصور القديمة، مُلمًّا بمعارف واسعة، وأذكر مثال : “ليوناردو دافنشي” فحين درسنا عنه في الجامعة اللبنانية (معهد الفنون الجميلة)، عرفت حينها -وتفاجأت طبعًا- بأن “ليوناردو” بالإضافة إلى أنه رائد من روّاد المدرسة الكلاسّيكية في الرسم، فقد كان مخترعًا، فمحترفه مختبر للتجارب العلمية، ولديه محاولات عملية في العديد من الاتجاهات، حيث كانت اختراعاته -كونه مُهندسًا- هي التمهيد لاختراعات الطائرة المروحية والرجل الآلي وغير ذلك.
هذه المُقدّمة ضرورية لمحاولة إثبات أن الدماغ البشري ينقسم إلى مناطق تتعلق كلٌّ منها بوظيفة يقوم بها الإنسان. ونموّ الدماغ مرتبط بتعزيز وتنشيط كل قسم من خلال الممارسة. فالجانب الأيمن يتعلّق بمهارات “أوتوماتيكية”، الحسابات والأرقام وما إلى ذلك، وإن لم يمارس الإنسان هذه المهارة ليعطي هذه الوظيفة الدماغية حقّها بالنمو، فالنتيجة تكون ليس فقط بخسارة هذه المهارة، بل يؤثر الكسل الوظيفي عضويًّا على وظائف الدماغ. وبالتالي يصاب الإنسان بحالة خمول وبلادة تضرب عنده قيم وحقوق إنسانية، مثل مقاومة الظلم ورفضه، والوقوف بوجه الظالم شخصًا كان أم نظام.
أتيت على ذكر الظلم “شخصًا أم نظام”، للقول بأن عمل الدماغ الجبّار يسهم في ترويض بعض القضايا وإقناع الإنسان الذي إعتاد عليها، بأنها قيم جميلة وإنسانية ولا يجوز كسرها أو نبذها بعيدًا. فُتصبح الطاعة رداءًا جميلًا يلبسه الظالم لتمجيد غطرسته من خلال تلوين الخضوع والطاعة بألوان يحبّها الناس المظلومين لا بل يعتادون عليها.
تكمن أهميّة هذا الحديث المُستند على حقائق علميّة، في مواجهة الإنسان لذنبٍ ارتكبه بحقّ ذاته و”أناه”، وقد شجّعه المجتمع على ارتكاب هذا الإهمال بحقّ الأنا. وما أريد توضيحه للقارئ، الذي قد لا يعلم أنّ الأنا ضرورية ومطلوبة للإستمرارية، وقد حاربها المجتمع وقال عنها “سلبية” ولا تعود بالنفع على الفرد (الطمع ضرّ وما نفع). ولم يكتفِ المجتمع بتحقير الأنانية، بل لم يظهر “شعبيًّا” بأن المفهوم السلبي ونقلاً عن علم النفس هو “النرجسية” لا الأنانية، هي الحالة المرضية التي تُعمي أبصار المُصاب بها عن رؤية الآخرين والإهتمام بهم.
لم أستغرب قيام الشعب اللبناني الآن بـ “الثورة”. والذي كنت أتوقّعه، وهذا لا فضل لي ولأحد به، بل الفضل يعود تحديدًا للمسار العلمي الطبيعي للدماغ البشري، والذي مهما طالت غيبوبته، لا بُدّ أن يُرسل إشارات إلى الإنسان -حامل هذا الدماغ- أن هناك نقص في تلبية حاجات فيزيزلوجية لباقي أعضاء الجسم البشري. فكيف يعمل الدماغ والمعدة جائعة؟ الدماغ يحتاج إلى غذاء هو وقود عمله. ويمكننا القول أبعد من ذلك، فنطلق على الثورة ثورة الجياع، فلبنان مرّ تاريخيًّا بالعديد من المآسي والكوارث. وقد كانت نهايتها دائمًا سعيدة وليست “فيلم عربي”، من مقاومة الإستعمار الفرنسي إلى مقاومة الإحتلال الإسرائيلي، إلى انتفاضات عديدة بيّضت صفحة الشعب اللبناني الذي لطّخها بالإنقسام إنجرار كلّ فئات هذا الشعب للحرب الأهلية. وقد استغلّ الحرب الأهلية سُلالة عائلات ورثت فكرًا إقطاعيًّا، ولّدت زعامات سياسية استولت على السلطة لثلاثة عقود ونيّف.
لقد اعتاد الناس- الثوّار الحاليّون- على تمجيد الزعيم وتأليهه نوعًا ما. نعم لست أبالغ فقد سمعت مرّة في وسيلة نقل عام كانت تقلّني من بيروت إلى الجنوب حديثًا بين رجلين من الدرك: “بالنسبة لي لا أقتل أحد إلا بأمرٍ من (س)”..وقد آن الأوان لمشاهدة وسائل الإعلام تنقل مشاهد شباب يحرقون صور (س) نفسه في منطقة نفوذه.. سابقًا.
شعب لبنان معروف تاريخيًّا بالأصالة والقيم الإنسانية كالتعاون ومساعدة الملهوف وإغاثة المنكوب، وقد ظهرت العادات الجميلة حين تبادلا الإحتضان لبعضهما البعض الشعبان اللبناني والسوري، وهذه هي أصالة المنطقة، وليس بعيدًا عنه أن ينتفض ويُدرك أهميّة أصالته التي اكتملت بكسره للمُحرمات السياسية والإيقونات الزعاميّة.
هذا التفسير العلمي ساعدني لفهم الأسباب التي دفعت الشعب اللبناني على الثورة ضد الزعماء التقليديين والجرأة على قول “لا” بوجه العائلات التي تورث أبناءها السلطة. والدماغ كائن منفصل لا علاقة له بالوراثة. حتّى لو كان الوالد عبقريًّا، لا يمكن أن يُورِث ابنه الذكاء، بدون الجوّ الآمن والمحيط المُشجّع لينمو دماغه بشكل سليم. فالذكاء بدايةً، جينات وراثية (وليست فينيقيّة) لكنها تموت في بيئة غير حاضنة تمامًا كما السمكة تموت خارج الماء. المجدُ للشعب خارج الماء، لا بل خارج “الأكواريوم” المتوارث المفروض، المجد للمتمردين على طاعة الاستبداد والظلم.
اقرأ أيضاً الحرية مسألة لاعنفية .. ناجي سعيد